يعتبر قطاع التعليم العالي في المغرب، ركيزة أساسية وجد مهمة يتكئ عليها من أجل إنتاج رأس مال بشري ذي جودة عالية من حيث التكوين.
هذا الرأس المال البشري يظل مطلبا مهما لسوق الشغل للنهوض بمستوى مردود المقاولات سواء الصغرى أو الكبرى. فالتعليم العالي في المغرب دائما مكان متغيرا في منحى يتجه لملاءمته لمتطلبات سوق الشغل في البلاد.
في هذا المقال نتطرق إلى التطور الزمني للاختصاصات المتعلقة بتكوين الطلبة في مؤسسات التعليم والتكوين العاليين، وما مدى فعالية التكوين في تلك الاختصاصات من أجل الوصول إلى طلاب خريجين ذوي كفاءة عالية. وفي حالة عدم ملاءمة منهجية التعليم متطلبات الظرفية الحالية، ما هي الحلول في إطار تهجين الاختصاصات.
بادئ ذي بدء وقبل الخوض في تحليل الموضوع يجب التطرق إلى بدايات وتاريخ تطور التعليم العالي في المغرب أو التعليم مع التركيز على الاختصاصات حتى يكون الاسم أكثر تدقيقا. فلا بد من أن يكون هذا التطور قد مر من مراحل عديدة. ومن حيث منظورنا للموضوع يمكن أن نقسم هذه المراحل إلى قسمين؛ المرحلة الأولى التي تتمثل في الفترة القبل استعمارية التي كانت تعتمد على المدارس الدينية. أما المرحلة الثانية، فقد تزامنت مع الفترة الاستعمارية وما بعدها بطريقتها التي ما زالت مستمرة إلى يومنا الحالي.
من وجهة نظر التاريخ، يعتقد العديد من الناس على أن إنشاء الجامعات في المغرب مع التركيز على تدريس اختصاصات معينة هي وليدة القرن أو القرنين الماضيين أو هي استنساخ لتجارب أوربية، بل بالعكس تماما، فعند الرجوع إلى ١٢ قرنا من تأسيس أول دولة إسلامية في المغرب على يد إدريس الأول عرف المغرب إنشاء العديد من أماكن التعبد التي أصبحت بعد ذلك مساجد لتدريس بعض الاختصاصات كاللغة العربية والقرآن وعلوم الدين. وبعد ذلك تكلل هذا التطور بإنشاء مسجد القرويين بفاس بتمويل من أم البنين فاطمة الفهرية وبمطالعة العاهل الإدريسي يحيى الأول سنة ٨٥٩ ميلادي. الذي أصبح آنذاك جامعا ليس فقط للتعبد، بل منارة لتعليم وتدريس اختصاصات عديدة أولها وبالأساس علوم الدين. ثم بعد ذلك تعددت الاختصاصات حسب الزمن والحاجة مثل علم الفلك والرياضيات والجغرافيا والفلسفة والطب، حيث عرفت جامعة القرويين تسليم أول شهادة طب في العالم للطالب عبد الله الكتامي سنة ١٢٠٧ ميلادي.
وقد تسلسل بناء المدارس بعد ذلك على يد الدول المتعاقبة خاصة في فترة الدولة المرينية. هذه البدايات للتعليم العالي في المغرب يدفعنا إلى الاستنتاج على أن طريقة التعلم مع التركيز على اختصاصات معينة متمركزة في منشأة واحدة هي صنيعة المغرب في أقدم جامعة في العالم وهي جامعة القرويين حسب منظمة اليونيسكو. ويجب الإشارة كذلك إلى أن هذه الجامعة قد درس فيها العديد من العلماء كابن خلدون (مؤرخ) وابن رشد (الفلسفة) وبن ميمون (الطب) والشريف الإدريسي (الجغرافيا). وقد أنجبت العديد من عقلاء القوم الذين كان لهم تأثير في المجتمع، حيث تقلدوا مناصب عليا في الدولة. فالسؤال الذي يجب طرحه، ما هي أساليب الدراسة التي كان يعتمد عليها في تلك الحقبة التي أظهرت نجاعتها ونتائجها الجيدة والتي كانت ظاهرة على خريجي الجامعة.
قبل الخوض في منهجية التدريس التي كانت متبعة في تلك الحقبة المزدهرة لجامعة القرويين، يجب للاستفسار عن من هم الكوادر الذين أسسوا تلك المنهجية وما هي الموارد العلمية المستعملة في التدريس، وكذلك من هي الفئة المتلقية للدروس.
فعند تأسيس مدينة فاس على يد الأدارسة أسباط أهل البيت تعاظمت شهرة المدينة في العالم الإسلامي على أنها مدينة علمية بامتياز خاصة بعد بناء القرويين، مما أغرى العديد من العقول إلى الهجرة إليها. وقد زادت وتيرة تلك الهجرة بعدما حلت الأزمات بأغالبة تونس فزع علماؤها إلى فاس. وكذلك بعدما ضاق علماء قرطبة بسياسة الأمويين في الأندلس. إذن فالإشعاع الثقافي لمدينة فاس ساهم في طلب العلم فيها.
بخصوص الموارد العلمية، فقد حرصت مريم أخت فاطمة الفهرية على اقتناء العديد من الكتب في العديد من العلوم وحبستها على جامع القرويين. كذلك ورثت الجامعة على قرطبة والقيروان الكتب القادمة مع العلماء المنتقلين إليها. هنا يبرز دور المعلومة في الإنتاج الفكري.
بالنسبة للطلبة المتمدرسين بها، فهم في غالبيتهم حتى لا نقول كلهم كان لديهم قاسم مشترك وهو المجيء إلى القرويين لطلب علم أو مادة معينة حسب حاجتهم فيها، مما يدفع الطالب للبحث الجيد والإبداع في ذلك العلم. فهذا المعطى يشرح الفرق بين تلميذ يفرض عليه ما يجب دراسته وطالب علم يبحث فيما هو مهتم فيه.
بالنسبة للطريقة التي كانت معتمدة في التدريس آنذاك، فقد عرف على جامعة القرويين أنها أول جامعة في العالم التي اعتمدت طريقة الكراسي العلمية المتخصصة، التي هي شبيهة بأقسام الاختصاصات المتواجد في تعليمنا العالي حاليا، حيث تركز الدروس على علم معين. ففي الكراسي العلمية المتخصصة يتم إنشاء حلقيات في المسجد متكونة من طلبة العلم، يتوسطها المدرس ذو الاختصاص الذي يعلو على الطلبة شأنا وعلما والذي كان دائما ما يتخذ من الكرسي موضعا، أما الطلبة فقد كانوا جالسين على الأرض منصتين إليه. يجدر بالذكر على أن الطالب في الجامع لم يكن حبيس اختصاص معين بل كانت له الحرية بالتنقل بين الكراسي العلمية مما يفيد الطالب في تكوينه ويجعله في تفكيره وتحليله أكثر شمولا. مما يبين على أهمية تهجين الاختصاصات.
أما بخصوص العلوم الدقيقة، فقد عرفت القرويين العديد من الاختراعات على يد طلابها وعلمائها في مجالات مختلفة كالفلك والطب والجغرافيا وعلوم أخرى التي كان لها وقع مهم في تطوير حياة الإنسان إلى الأفضل. وما متحف القرويين بفاس إلا شاهد على هذه الاختراعات. وقد شملت هذه الاختراعات كذلك الأدوات المستعملة لدى الحرفيين وصناع المدينة حيث كان حافزا لهم للمجيء إلى الجامع والاستفادة من الكراسي العلمية بغية تطوير صناعتهم. وإن دل كل هذا على شيء فإنما يدل على أن الجامعة كانت مختبرا علميا منفتحا على مجالها السوسيو اقتصادي.
يجب ألا نغفل عاملا مهما ساهم إيجابيا في الدفع بالبحث العلمي في تلك الحقبة، وهو الوازع الديني القوي للطلبة والعلماء انطلاقا من حث الإسلام على طلب العلم. وكذلك فإن ارتباط الإنتاج الفكري في تلك الفترة بالمساجد التي كانت منشآت للتعبد والتعلم، ساهم في الإشباع الروحي للطلبة المعتكفين في الجامع والحريصين على أداء الصلوات الخمس في اليوم التي فرضها الإسلام. هنا يتبين لنا على أن الحالة النفسية الجيدة لمتلقي العلم ضرورية لتلق متكامل.
خلال المرحلة التي أعقبت الفترة الاستعمارية في المغرب، حافظت الدولة شيئا ما على منهجها في التدريس عن طريق ما أطلق عليها اسم المدارس العتيقة لتعليم القرآن وعلوم الدين، وبالموازاة مع ذلك ركزت الدولة اهتمامها على تطوير المنشآت العلمية والتدريسية المورثة على المستعمر الفرنسي الذي ينتمي إلى قارة ساهمت في تطوير علم وطرق تعلم ورثت قسطا كبيرا منهم عن العرب في أوج تقدمهم خاصة في فترة حكم الأندلس، ولا يختلف اثنان على أن المغرب كان أيضا منارة علم موازية لمنارة الأندلس.
فقد تمثلت المنشآت التدريسية الموروثة عن الفترة الاستعمارية في المغرب فقط في المدارس والثانويات التأهيلية. ومن أجل استكمال دراسة الاختصاصات، كان ولا بد على الطالب الهجرة إلى دولة تتوفر على جامعات تدرس فيها اختصاصا علميا معينا، وكانت الوجهة غالبا دولة فرنسا بحكم ثقافتها الطاغية على المجتمع. الحاجة لهذه الاختصاصات من طرف الطلاب والدولة دفعت هذه الأخيرة لإنشاء أول جامعة عصرية في المغرب وهي جامعة محمد الخامس بالرباط سنة 1957.
الإختصاصات التي أتيحت في المؤسسات الجامعية ما بعد الفترة الإستعمارية كانت الحاجة إليها مرتبطة بتلك الظرفية. وقد تميزت هذه الاختصاصات باحتوائها على مجموعة من الدروس الموجهة للطالب مرتبطة بالأساس بإسم الإختصاص، مما لا يتيح للطالب الانفتاح على علوم أخرى تجعله أكثر شمولية في التفكير و التحليل.
مع مرور السنين، تم التفكير في إدراج بعض الدروس في البرنامج الدراسي لإختصاص معين التي قد يستعين بها الطالب بعد التخرج والتي هي ليست بالأساس من طبيعة الإختصاص. على سبيل المثال، تلك الدروس المتعلقة باللغات والإعلاميات وإكتساب المهارات. هذا التفكير قد كان له أكله ولكن لم يرتقي الى تهجين الإختصاصات.
من ناحية أخرى، فقد عرفت الثانويات التأهيلية في المغرب إدراج اختصاصات تقنية معينة التي تتيح لتلاميذ الثانويات الحصول على شهادة البكالوريا في اختصاص تقني معين، هذه الشهادة التقنية تساعد خريجي الثانويات على الولوج إلى سوق الشغل في سن مبكرة، مما ينتج عنه تكوين فئة من الناس تتميز فقط بتطبيق مجموعة من المهارات والحرف بطريقة أكثر من التفكير والتحليل.
لا بد للإشارة كذلك إلى أن الطالب الحالي فيما يخص اختياره لدراسة اختصاص معين، يبقى محصورا بين ما تخول له الدرجة الحاصل عليها في شهادة البكالوريا. على عكس الطالب في المرحلة ما قبل الاستعمارية، الذي كان هو من يختار الاختصاص العلمي الذي يريد تعلمه في الوقت والمكان المناسبين. هذه الحواجز الشكلية المفروضة على الطالب والتي تقيد حريته الفكرية، تدفعه للبحث فقط على الدرجات في سلك التعليم العالي من أجل اجتياز المراحل الدراسية عوض البحث والتمحيص والتمعن من أجل الإبداع والابتكار في الاختصاص.
نشير كذلك على أن بعض الطلاب في الوقت الحالي ومع مغريات الحياة يبحثون عن ربح المال السريع، خاصة بعد تطور قطاع المعلوميات الذي ساهم في إنشاء سوق افتراضية موازية للسوق الحقيقية، أو عن طريق مزاولة عمل أو تجارة بالموازاة مع الدراسة. فغالبا ما إذا كان الطالب هو رب العمل وقام بتطويره أثناء دراسته، فذلك العمل ما يكون إلا نشاطه بعد استكمال الدراسة. هذا النشاط أثناء الدراسة يعتبر بحثا في اختصاص مرغوب فيه من طرف الطالب بواسطة إمكانياته الخاصة وبعيدا عن الاختصاصات الموجودة في المنهج الدراسي الذي قد يكون مفروضا عليه.
من خلال تحليلنا للموضوع وسرد تاريخ التعلم المبني على الاختصاصات، يمكن لنا أن نستخلص بعض الطرق الإيجابية في التدريس، والتي من خلالها يمكن أن نبني عليها مستقبلا متطورا للتعليم العالي في المغرب. ففي بادئ الأمر، يستحب أن تتأسس معاهد تعلم الغد على نظام تعدد وتهجين الاختصاصات التي تمنح للطالب حرية اختيار المواد الدراسية التي هو بحاجة إليها من أجل مسار تكويني أمثل. كذلك يجب على المؤسسات التعليمية الانفتاح أكثر على محيطها الاجتماعي والاقتصادي، عن طريق شراكات رابح رابح لغرض استفادة المقاولات من البحوث العلمية المنتجة من طرف كوادر وطلبة هذه المؤسسات من جهة، وإيجاد مناصب شغل لخريجيها من جهة أخرى.
من ناحية أخرى، يجب التفكير في إنماء خزانة المواد الدراسية للنهوض بالابتكار داخل الفضاء التعليمي وتوجيه الطالب لتعلم إنشاء المقاولات عن طريق المشاريع المقدمة للطالب أثناء الفترة الدراسية. وبالموازاة مع الإغناء الفكري للطالب، يجب أن لا نغفل الجانب الروحي الذي يساهم في منح جرعات إيجابية للإنسان عامة من أجل إنتاج علمي جيد.
بقلم الدكتور سفيان جنيدي أستاذ باحث بالمعهد العالي للهندسة والتدبير بالدارالبيضاء