يستدعي كل نقاش اليوم حول التجربة الانتخابية الرئاسية التونسية الأخيرة عدم تجاهل عدد من الحقائق التي لم تعد قابلة للإنكار.
أولا، إن مرحلة جديدة تمامًا قد تم تدشينها، في الحياة السياسية في البلاد، من بين مميزاتها التدخل القوي للشباب إلى حلبة الصراع الإنتخابي والذي رجح كفة الأستاذ الجامعي قيس سعيد على كفة منافسيه وفي مقدمتهم المرشح المعتقل آنذاك رجل الأعمال نبيل القروي في الدورة الأولى للانتخابات .
ثانيا، استفادة قيس سعيد من استمرار زخم مشاركة الشباب في الإنتخابات إلى جانب دعم حركة النهضة التي دعت إلى التصويت لصالحه في الدور الثاني من الإنتخابات، وهو ما عكسته بوضوح النسبة الكبيرة من الأصوات التي حصل عليها وكرست فوزه أمام نبيل القروي الذي لم يستطع الحصول حتى على ما يناهز نسبة الثلاثين بالمائة من أصوات الهيئة الناخبة التونسية
ثالثًا، الدور الذي لعبه تشتت القوى الديمقراطية والليبرالية اليسارية التقليدية ليس في فترة الدخول إلى الصراع الإنتخابي فحسب، وإنما قبل ذلك بكثير بسبب الصراعات التي تخترق صفوفها والتي تعود في أغلبها إلى تباين طموحات الشخصيات السياسية التي تتزعمها وعدم انطلاقها مما يمكن أن يكون نواة جبهة تقدمية لمناهضة التيارات المحافظة بمختلف تلاوينها السياسية أو الدينية.
رابعًا، التحول الذي وقع في نظرة الشباب إلى الممارسة السياسية والذي أبعد هذه الفئة عن التصورات القديمة للأحزاب بمختلف توجهاتها من جهة، وأبعدها، كذلك، عن فكر المؤسسة والبرنامج لفائدة الإنطباعات التي يمكن أن تتركها شخصية من الشخصيات لديها ومدى تقبلها لخطاب هذه الشخصية أو تلك، بعيدًا عن المعايير البرنامجية التقليدية . وهو ما استفاد منه الأستاذ الجامعي قيس سعيد أكثر من كل منافسيه في خضم العملية الإنتخابية برمتها. يقول البعض إن هذا الخطاب مثالي إلى أبعد الحدود والشباب مثالي في طموحه بينما يرى البعض أنه خطاب يوحي بالثقة والمصداقية وهذه هي ضالة شباب تونس الذي يطلع إلى تجاوز إحباطات تجربة ما بعد ثورة الياسمين.
خامسا، انتصار الشعب التونسي، وخاصة في مرحلة الإنتخابات التشريعية، لأثرها البالغ على تطور العملية السياسية في البلاد، لما يمكن اعتباره براغماتية سياسية من نوع خاص. وتتجلى في كونه قد أعطى الأسبقية لما يمكن أن يكون عامل استقرار سياسي على المدى القريب والمتوسط، على ما يراه يؤدي إلى الطريق المسدود على مستوى إدارة البلاد وتدبير شأنها العام. فقد كان واضحا أن إعطاء الأغلبية لحزب قلب تونس بزعامة نبيل القروي الذي أعلن، غير ما مرة، أنه لن يدخل في أي تحالف مع حركة النهضة الإسلامية سيؤدي مع انتخاب قيس سعيد، الذي دعمته الحركة، إلى أزمة حقيقية لا قبل للبلاد اقتصاديًا وسياسيًا بها. إذ قد تؤدي إلى استحالة تشكيل أغلبية قادرة على الحكم إلى جانب الرئيس المنتخب خاصة أن هذا الأخير ليس لديه حزبه السياسي الذي يمكن أن يدعم أي حكومة موالية له داخل المؤسسة التشريعية. وعندما تستحيل ممارسة الحكم على الرئيس فهذا يعني الدخول في مرحلة من عدم الاستقرار غير محسوبة النتائج على مستوى مصالح تونس العليا .
سادسا، إن هذه الإنتخابات قد جاءت لتوضح أن استقرارا ما في المزاج الشعبي التونسي قد تحقق، في حده الأدنى، وربما إلى حين. لأن تقلبات هذا المزاج هي التي مكنت “نداء تونس” في الإنتخابات السابقة من إيصال زعيمه الراحل باجي قايد السبسي إلى سدة الرئاسة، بينما لم تسمح (تلك التقلبات) في المحطة الأخيرة، من أن ينال هذا الحزب أي مرتبة اعتبارية بعد أن كان حزب الرئيس.
إن هذه الحقائق تدعو إلى انتظار الخطوات التي سيقدم عليها الرئيس الجديد المنتخب في مجال تحديد برنامجه للمرحلة المقبلة، وكذلك انتظار التعرف على التشكيلة الحكومية التي سيعتمد عليها في إدارة شؤون البلاد وكيف ستتعامل مع القضايا الساخنة اجتماعيًا واقتصاديًا وسياسيًا. وذلك قبل إصدار أي أحكام مهما كان نوعها على تجربة لم تبدأ بعد على خلفية مواقف مسبقة من الرئيس الجديد أو من يدعمونه من القوى السياسية في البلاد أو خارجها.
فليس خافيًا على أحد أن إكراهات ممارسة الحكم تختلف بشكل نوعي عن إكراهات السعي إليه ولو بالطرق الديمقراطية كما حدث في تونس. وكل محاولة إعادة النقاش إلى ما قبل الانتخابات التشريعية والرئاسية التونسية لن يكون مجديًا ما لم يكن الإطار الموجه التعرف على البرنامج المستقبلي الذي يحكم التجربة وهذا ليس وليد تخمينات أو توقعات لا تقوم على معطيات ملموسة. وهذا ما ستكشف عنه الأيام القليلة المقبلة. لأن التجربة هي المحك الحقيقي.