الثقافة العربية ثقافة عريقة غنية. تشمل في غناها جميع جوانب الحياة الفكرية التي تتمتع بها الإنسانية. ونعني بقولنا هذا أنها ثقافة عالمية، تطاول سائر الثقافات العالمية المعروفة في القديم.
وتمتد جذور هذه الثقافة بعيداً في أغوار الزمن إلى أيام الجاهلية، حين بدأ التاريخ يسجل شيئاً فشيئاً أولى معطيات هذه الثقافة في الشعر العربي الجاهلي. وهذا ما عبّر عنه محمد بن سلام الجمحي في كتاب “طبقات فحول الشعراء” بقوله عن العرب: »وكان الشعر في الجاهلية ديوان علمهم، ومنتهى حُكمهم«. وكلمة ديوان في هذا القول بمعنى »كتاب«. وقوله ديوان علمهم معناه: »كتاب علمهم«. وكلمة الحُكْم بمعنى »الحكمة«. وهي المعرفة بمعناها الواسع. وقوله منتهى حكمهم معناه: »منتهى معرفتهم وثقافتهم«. والحق أن الشعر الجاهلي يعدّ من أروع ما أبدعته القريحة العربية على مدى العصور.
وفي الإسلام بدأت الحضارة العربية الإسلامية العظمى تتكون شيئاً فشيئاً. ولما أطل القرن الثاني من الهجرة على المجتمع العربي الإسلامي، كانت الثقافة العربية قد نمت وتوسعت، وقطعت مراحل النشأة الأولى. وأخذت تسير في مرحلة الخصب والازدهار. فقامت حينئذ المراكز الثقافية في الأمصار العربية الإسلامية، مثل المدينة في الحجاز، والبصرة والكوفة في العراق، ودمشق في الشام، ومثل الفسطاط في مصر. وقد تعدّدت فنون الثقافة في هذه المراكز، وتميز بعضها عن بعض. وكثر فيها العلماء، ونشطوا في تأليف الكتب في فنون الثقافة المختلفة.
ذكر أبو بكر السيوطي في كتابه “تاريخ الخلفاء”، نقلاً عن العلامة الذهبي قوله: »في سنة 143 شرع علماء الإسلام في هذا العصر في تدوين الحديث والفقه والتفسير…. وكثر تدوين العلم وتبويبه. ودوّنت كتب العربية واللغة والتاريخ وأيام الناس«([1]).
وفي هذا القرن ظهر طائفة من العلماء الكبار الذين ألفوا الكتب. وكان لهم شأن كبير في إرساء أصول الثقافة في عصرهم، وتأثير عميق في عقول أجيال العلماء الذين أتوا بعدهم في القرون التالية. ونكتفي بذكر ثلاثة من هؤلاء العلماء الأعلام. وهم أبو عمرو بن العلاء شيخ اللغة والأدب في عصره. وأبو بشر عمرو بن عثمان المعروف بسيبويه الذي وضع كتاباً في النحو، يعتبر أكبر كتاب في النحو العربي إلى اليوم. والخليل بن أحمد الفراهيدي الذي وضع أول معجم لغوي في اللغة العربية، سمّاه “كتاب العين” بسبب ابتدائه بالألفاظ التي أولها حرف العين.
وفي القرن الثالث من الهجرة بلغت الثقافة العربية أوج الازدهار، وأخذت تعطي ثماراً طيبة في فنون الثقافة المختلفة. ويعتبر هذا القرن بدء العصر الذهبي لهذه الثقافة. ويكفي للدلالة على ذلك أن نذكر أن هذا القرن هو العصر الذي نبغ فيه أبو عثمان الجاحظ أديب العربية الأكبر. وعاشت الثقافة العربية بعد هذا القرن حياة زاهية زاهرة، وأنارت طريق الإنسانية إلى حياة أفضل وأجمل خلال قرون عديدة من الزمن.
* * *
وقد قامت خلال هذا الزمن الطويل مراكز كبرى للثقافة العربية، تدارس فيها العلماء وطلاب العلم هذه الثقافة. ووضعوا الكتب في جميع فنونها. وارتفعت هذه المراكز مثل منائر النور تنير العالم، في قرطبة الأندلس، وفاس المغرب، والقيروان في تونس، والقاهرة في مصر، وحلب ودمشق في الشام، وبغداد في العراق، وشيراز في فارس، ونيسابور في خراسان، وبخارى في ما وراء النهر، وغيرها من البلدان.
ونشأ في هذه المراكز الثقافية، خلال أجيال متعاقبة، علماء كثيرون تدارسوا فيها شتى فنون الثقافة، وألفوا فيها آلاف الكتب. حتى نشأ من مجموع هذه الكتب تراث ثقافي عربي غني ثري، يعدّ ثروة ثمينة من تراث الإنسانية.
إن نظرة سريعة يلقيها الإنسان على كتاب “كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون” للعالم التركي حاجي خليفة، أو على كتاب “تاريخ الأدب العربي” للمستشرق الألماني كارل بروكلمان، وكتاب “تاريخ التراث العربي” للباحث التركي فؤاد سزكين كافية لإدراك عظمة هذا التراث وغناه وسعته، وشموله لجميع الفنون والعلوم.
لقد عدت عوادي الزمن على قسم من هذا التراث الثمين، فأفنته وغيبته إلى الأبد. ولكن قسماً كبيراً منه قد نجا من يد الفناء، وظل حياً باقياً إلى اليوم. وهو الآن محفوظ مصون في خزائن الكتب والمتاحف في الأقطار العربية، وفي البلاد الإسلامية، وفي غيرها من بلاد العالم.
ونتساءل: كيف استطاع هذا التراث أن ينتشر في أنحاء العالم؟
والجواب نجده في سببين كبيرين اثنين:
1 ـ الغنى الذي يمتاز به هذا التراث. وقد بيّنا مداه وشموله.
2 ـ قوة ارتباطه بدين الإسلام. فقد كانت الثقافة العربية تتبع الإسلام أينما حل واستقر. فما دخل بلداً في الشرق أو في الغرب إلا زحفت وراءه هذه الثقافة، ودخلت هذا البلد، وطبعت أنماط الحياة والفكر فيه بطابعها الخاص، ومدّت عليه جناحين وارفين من الرحمة والنعمة والرفاه الثقافي. وحقّاً كان هذا الارتباط الوثيق أمراً فذّاً عجيباً. فقد فتح الأبواب أمام الثقافة العربية، ووسع لها الطريق حتى امتدت ووصلت إلى بلاد لم يصلها العرب.
ونذكر مثالاً على ذلك بلاد الهند التي فتح العرب جزءاً منها، وهو إقليم السند، في أيام الدولة الأموية. ثم فتح السلطان محمود الغزنوي كل القسم الشمالي منها، ونشر فيه الإسلام، في القرن الرابع من الهجرة. فدخلت الثقافة هذه البلاد، وانتشرت فيها شيئاً فشيئاً. ثم أقبل الترك والمغول المسلمون، وتوسعوا في حكم بلاد الهند قروناً طوالاً. فتغلغلت الثقافة العربية في أيامهم إلى شتى أنحاء هذه البلاد، واستقرت فيها إلى اليوم.
وتوجد مكتبات حافلة بمخطوطات التراث العربي في المدن المشهورة في الهند وباكستان، مثل لاهور ورامبور ولُكْناو، وحيدر آباد الدَّكَن في الجنوب. وفي هذه المدينة الأخيرة مؤسسة علمية عريقة، هي الجامعة العثمانية التي تُعْنى بالتراث العربي عناية خاصة. وقد نشرت عدداً من نفائسه، نذكر منها “كتاب المعاني الكبير” لابن قتيبة من علماء القرن الثالث، وهو كتاب فخم في معاني الشعر. وكتاب “المحبَّر” وكتاب “المنمّق” لابن حبيب من علماء القرن الثالث. و”الحماسة البصرية” لأبي الحسن علي بن أبي الفرج البصري من علماء القرن السابع. وهي مختارات منتقاة من شعر العرب القديم.
ونذكر مثالاً ثانياً بلاد روسيا النائية. فقد سار التاتار المسلمون منذ قرون من أواسط آسيا، ودخلوا بلاد الروس، وأقاموا فيها دولة على ضفاف نهر الفولغا. فتبعتهم الثقافة العربية إلى موطنهم الجديد. ثم قضى الروس على هذه الدولة بعد صراع وحروب دامية. ولكن الثقافة العربية استمرت في الحياة بين السكان المسلمين إلى اليوم، ولا سيما مدينة قازان المشهورة. وقد رأيت أناساً منهم يتكلمون العربية ويكتبونها، ويعتبرونها لغة العلم والثقافة عندهم. ورأيت نسخة من ديوان طرفة بن العبد الشاعر الجاهلي مطبوعة في مدينة قازان سنة 1909.
ونذكر مثالاً آخر بلاد البلقان. فقد فتح العثمانيون هذه البلاد ونشروا الإسلام في أرجائها. وسرعان ما زحفت الثقافة العربية وراءهم. ثم ارتد العثمانيون عن بلاد البلقان. ولكن التراث العربي بقي حياً هناك بين المسلمين. ففي مدينة قَوَلا في شمالي اليونان، وفي مدن البوسنة، ولا سيما العاصمة سراييفو مكتبات عامرة بآثار التراث العربي من المخطوطات. ويوجد عدد كبير من هذه المخطوطات في مكتبة صوفيا عاصمة بلغاريا، وفي غيرها من مدن البلقان.
وهكذا انتشر التراث العربي في شتى بلدان العالم الإسلامي الذي أظلته الثقافة العربية، وربطت أجزاءه برباط واحد، من المحيط الأطلسي في الغرب إلى حدود الصين في الشرق، ومن أعماق روسيا والبلقان في الشمال إلى أقاصي الهند وإفريقية في الجنوب. وتجمعت مخطوطات هذا التراث مثل عقود الجوهر في خزائن المكتبات. ولا تكاد مدينة كبيرة في العالم العربي والإسلامي تخلو من مكتبة تضم في جنباتها آلافاً من مخطوطات التراث العربي. ونذكر من هذه المدن أمهات المكتبات إستانبول وبروسه وقونيه ومغنيسيه وجوروم وآماسيه وأدِرْنه في تركيا، والقاهرة والإسكندرية في مصر، ودمشق وحلب والقدس في بلاد الشام، وبغداد والموصل في العراق، والمدينة المنورة في الحجاز، وصنعاء في اليمن، ومدينة تونس والجزائر، وفاس والرباط ومراكش وتطوان في المغرب، وطهران ومشهد في إيران، وطاشقند في تركستان، ولاهور ورامبور ولُكْناو وحيدرآباد في الهند وباكستان.
* * *
ولم تقف الثقافة العربية عند حدود العالم الإسلامي، بل اجتازت هذه الحدود إلى داخل بلدان أوربا في القرون الوسطى، عن طريق الأندلس وجزيرة صقلية في أثناء الحكم العربي فيهما، وعن طريق المشرق العربي في أثناء الحروب الصليبية. وكانت أوربا متخلفة عنا في الحضارة، وكنا نحن أهل العلم والعمران والحضارة في ذلك الزمان. فاستفاد أهل أوربا من نتائج ثقافتنا، ولا سيما في العلوم كالطب والرياضيات والكيمياء وغيرها. وترجموا عدداً من كتب التراث العربي إلى اللغة اللاتينية. كما أنهم دارسوا هذه العلوم في أصولها العربية في مدارسهم. وهذا كما نصنع نحن اليوم، فنستفيد من معطيات الحضارة الأوربية الحديثة. والأيام دول بين الأمم كما نعلم من مسيرة التاريخ. قال الله تعالى في كتابه العزيز: {وتلك الأيام نداولها بين الناس} (سورة آل عمران، الآية 140).
وقد ازداد اهتمام الأوربيين بالثقافة العربية في العصور الحديثة. فأنشأوا المدارس الخاصة، والكليات والمعاهد في الجامعات، لدراسة اللغة العربية وسائر فنون الثقافة العربية كالأدب والتاريخ والفلسفة والجغرافية والعلوم الطبيعية وعلوم الدين وغيرها. وسعوا في سبيل ذلك للحصول على مخطوطات التراث العربي، وجمعوها في مكتبات هذه الكليات والمعاهد للرجوع إليها والإفادة منها في الدراسة والبحث. واتبعوا لذلك طرقاً مختلفة. فانتقلت إلى أوربا هذه المخطوطات في حقائب الدبلوماسيين، وفي صناديق التجار الجشعين، وتحت آباط الرهبان المبشرين، وفي بريد العلماء الباحثين، وفي جِعاب الجنود الغزاة الطامعين، وغيرها من الطرق والوسائل الغريبة، حتى حفلت متاحفهم، وامتلأت خزائن المكتبات عندهم بمخطوطات التراث العربي من جميع الفنون.
واليوم لا نكاد نرى في أوربا عاصمة أو جامعة أو مركزاً ثقافياً ذا شأن خالياً من مكتبة تضم في جنباتها جناحاً خاصاً بمخطوطات التراث العربي. وأشهر هذه العواصم مدينة الفاتيكان في روما، وميلانو في إيطاليا وفيها مكتبة الأمبروزيانا، وبرلين وميونيخ وهيدلبرغ وغوطا في ألمانيا، وباريس وفيها المكتبة الوطنية، ولندن وفيها المتحف البريطاني، وكيمبرج وأوكسفورد في بريطانيا، وليدن في هولندا، والإسكوريال في إسبانيا، وبترسبورغ في روسيا، ودوبلين في إيرلندا وفيها مكتبة شستربيتي الخاصة الشهيرة.
* * *
وفي العصر الحديث ركبت مخطوطات التراث العربي جناح الريح، وامتطت متن البحر إلى الولايات المتحدة في أمريكا التي ليست لها حضارة خاصة عريقة، ولا مظاهر ثقافية موروثة. وهي تسعى لاستكمال هذه النواقص في حياتها الفكرية. وقد أخذت تهتم بشؤون العالم العربي والعالم الإسلامي من ورائه. وشرعت تعمل لمعرفة الثقافة العربية. وأفضل طريق لذلك هو دراسة التراث العربي نفسه. فبعثت أمريكا البعوث، وافتتحت المعاهد والكليات في الجامعات لتحقيق هذه الغاية، وأنشأت فيها المكتبات، واستجلبت لها مخطوطات التراث العربي. فاستقر معظمها في مكتبة جامعة برنستون التي يربو ما فيها على عشرة آلاف مخطوط. كما أن عدداً منها قد تجمع في مكتبة جامعة يَيْلْ وغيرها.
* * *
وأعظم موئل لمخطوطات التراث العربي هي مدينة إستانبول العظمى، بل هي جنة هذا التراث وحماه الأمين. ولاينازعها في هذه الصفة أو يضاهيها فيها مكان آخر في العالم أجمع. وفي مكتباتها المشهورة أكثر من مائتي ألف مخطوط من التراث العربي. والمكتبة السليمانية فيها تضم وحدها ما يناهز ثمانين ألف مخطوط، فيها ما يقارب خمسين ومئة ألف عنوان كتاب، كما صرّح لنا بذلك صديقنا الأستاذ العالم الدكتور نَوْذات قايا، المدير العام لهذه المكتبة الكبيرة الشهيرة. ولا تمتاز إستانبول في كثرة العدد وحسب. بل هي تمتاز عن غيرها في القيمة العلمية للمخطوطات، وكيفيتها الأثرية أيضاً، إذ تضم مكتباتها أحسن مخطوطات التراث العربي وأجودها وأصحّها.
والسبب في امتياز استانبول واحتفاظها بهذا العدد الوفير من المخطوطات القيّمة كونها عاصمة الدولة العثمانية، أي كونها آخر مقر للخلافة الإسلامية. وكانت اللغة العربية تدرّس في مدارسها إلى جانب التركية والفارسية. وهي اللغات الثلاث الأمهات التي كتب بها تاريخ الإسلام، وصيغت فيها آثار الحضارة الإسلامية. فعمد سلاطين هذه الدولة ورجالها وعلماؤها إلى إنشاء المكتبات، وحشدوا فيها مخطوطات التراث العربي والإسلامي في كل أصناف الفنون والعلوم لفائدة العلماء وطلبة العلم، حتى بلغ عدد هذه المكتبات سبعاً وثلاثين، بين كبيرة وصغيرة، موزعة في أطراف إستانبول القديمة.
* * *
لقد ألف العلماء كتباً، ووضعوا فهارس علمية، للكشف والتعريف بالمخطوطات المحفوظة في مكتبات التراث العربي في كل مكان بالعالم. وأعظم كتاب في هذا الميدان هو “تاريخ الأدب العربي” للمستشرق الألماني كارل بروكلمان. وهو موسوعة ضخمة في التعريف بالتراث العربي، والدلالة على أماكن وجوده، وبيان المطبوع والمخطوط منه. فصار هذا الكتاب مرجعاً أساسياً لكل من يبحث في تاريخ الأدب العربي، وكل من يحقق وينشر كتاباً من التراث العربي. وقد حذا حذوه العالم التركي الدكتور فؤاد سزكين. فوضع كتاباً باللغة الألمانية، سماه “تاريخ التراث العربي”. وقد فاق هذا الكتاب كتاب المستشرق بروكلمان، وزاد عليه أشياء كثيرة في التعريف بآثار التراث العربي وبيان قيمتها والدلالة على أماكن وجودها في أرجاء العالم. فصار مرجعاً أساسيّاً آخر، لا يستغني عنه المحققون والباحثون وكل العاملين في ميدان التراث العربي.
ومن أشهر الفهارس الموضوعة في التعريف بمخطوطات هذا التراث سلسلة “فهرس مخطوطات دار الكتب الظاهرية” بدمشق، وسلسلة “فهارس الخزانة الحسنية” في القصر الملكي العامر بالرباط، وسلسلة “فهرس المخطوطات العربية” المحفوظة في الخزانة العامة بالرباط.
* * *
ويجدر بنا أن نتحدث عن مسألة إحياء التراث الثقافي العربي ونشره التي يطول فيها الكلام، ولا يكاد ينتهي. ولهذا نعمد إلى الإيجاز، ونكتفي برسم الخطوط الأساسية العامة في هذه المسألة في وضوح وبيان.
إننا لا ندري المقدار الذي نشر إلى اليوم من التراث العربي، لأننا لا ندري مقدار هذا التراث بكامله على وجه دقيق صحيح. وفي إمكاننا مع ذلك أن نقول بأن كثيراً من أصول هذا التراث وأمهات مصادره قد نشرت. فعرفها العلماء والباحثون وجمهور المثقفين، وأفادوا منها في أبحاثهم ودراساتهم وأعمالهم العلمية. وهذه الأصول والمصادر المعروفة كافية لإدراك غنى الثقافة العربية، وإثبات قيمتها، وبيان جدواها وفائدتها.
وقد بقي قسم كبير من التراث العربي مخطوطاً غير منشور، يجهله جمهور الناس، ولا يعرفه إلا قلة من العلماء ذوي الاختصاص والخبرة فيه. ولا يقل هذا القسم الباقي في القيمة عن القسم المنشور، وفي جدواه وفائدته لإرساء قاعدة مكينة لبناء ثقافة عربية جديدة قويمة.
* * *
بدأت قصة نشر كتاب التراث العربي منذ أكثر من ثلاثة قرون في الغرب، حين كنا نحن في تخلف وسبات عميق. ذلك بأن الأوربيين حين توافرت لهم أسباب النهضة الحديثة أخذوا ينظرون إلى الشرق والإسلام، وصاروا يهتمون بشؤون ممالكهما وشعوبهما، ومنها الأقطار العربية. وكانت هناك دوافع عديدة وراء نظرة أوربا الجديدة، واتجاهها هذه الوجهة الخاصة. ولا يتسع المجال لبيان هذه الدوافع وتفصيلها، ولكن يمكن القول بأنها كانت دينية وسياسية واقتصادية، نشأت بعد نهضة أوربا وزيادة اتصال الشرق والمسلمين بالغرب واتساع حجم التجارة بين الطرفين.
كانت هذه الدوافع سبباً في قيام حركة الاستشراق، أي دراسة حضارة الشرق، والمراد العرب والمسلمون، ومعرفة لغاتهم وثقافاتهم. وقد بدأت هذه الحركة بتأسيس مدارس لتدريس اللغة العربية واللغات الشرقية في معظم العواصم الأوربية، ثم تأسيس المعاهد والكليات في الجامعات، وتشكيل الجمعيات والمجامع العلمية لدراسة التراث العربي، ومعرفة شؤون الإسلام والشرق عامة. وقد أنشأوا إلى جانب هذه المؤسسات العلمية مكتبات ملأوها بالكتب اللازمة لدراساتهم، وشحنوها بمخطوطات التراث العربي التي استجلبوها من بلادنا كما بينا آنفاً. وقد بلغت حركة ا لاستشراق أوج الازدهار في القرن التاسع عشر الذي يعد العصر الذهبي لتقدمها ونتائجها العلمية.
وفي هذه المدارس والمعاهد والكليات نشأت أجيال من المستشرقين الذين درسوا ثقافتنا، ونشروا عدداً كبيراً من أمهات كتب تراثنا. وكانت غايتهم من نشر هذه الكتب هي دراسة الثقافة العربية في مصادرها الأصلية. وقد اتبعوا طرقاً ومناهج علمية دقيقة في الدرس والبحث وتحقيق المخطوطات ونشرها. وساعدتهم حكوماتهم التي احتضنتهم، وأغدقت عليهم الأموال، ونصبتهم أساتذة في الجامعات، ومنحتهم ألقاب الشرف، وأنفقت على أعمالهم ومطبوعاتهم، وأوفدت كثيرين منهم إلى الأقطار العربية وسائر بلاد الشرق للاطلاع والدراسة. وكان لهم دأب وصبر وجلد على العمل والبحث. فتمكنوا من إتقان لغتنا وفهم ثقافتنا في اللغة والأدب والتاريخ والدين والعلوم وسائر الفنون، وتمكنوا بعد جهود شاقة متصلة بين أجيال المستشرقين من كشف ثقافتنا وبيان قيمتها وعظمتها، وتعريفنا بها وتعريف العالم أجمع بغناها ومحتواها الإنساني.
وكل هذا الإنجاز الثقافي فضل لهؤلاء القوم، نعرفه ونقر لهم به من غير حرج أو شعور بالغضاضة. والحقيقة تذكر ولا تنكر. وما أكثر المستشرقين الذين أفنوا أعمارهم، وأذهبوا أبصارهم في تحقيق كتاب واحد من تراثنا ونشره، أو دراسة فن من فنون ثقافتنا. ولهؤلاء القوم فضل علينا من وجه آخر. فهم الذين مهدوا لنا الطريق لدراسة ثقافتنا وبعث تراثها. ثم فتحوا عيوننا عليها، وأخذوا بيدنا، ودلونا على السير على هدى وبصيرة من أمرنا في هذا العمل العلمي الجليل. وقلما نذكر كتاباً من أصول التراث العربي إلا كان لهؤلاء القوم قدمة فيه، إما بتحقيقه ونشره، أو الحديث عن مخطوطة له وبيان قيمتها العلمية، أو إنشاء دراسة فيه. وقلما نذكر فناً من فنون ثقافتنا أو موضوعاً من موضوعاته إلا رأينا أحد الرواد من المستشرقين قد سبق إليه وطرقه، أو كتب فيه، أودلّ عليه ودار حوله. والموسوعة الإسلامية خير دليل على ما نقول.
* * *
ويؤدي بنا سياق الكلام إلى هذا السؤال الكبير الخطير: ماذا صنعنا نحن في سبيل إحياء تراثنا الثقافي؟
من الحق أن نقول في الإجابة: إننا اشتغلنا في إحياء تراثنا، وما قصّرنا ولا وَنَيْنَا. ولئن سبقنا المستشرقون إلى الاهتمام به وإحياء جملة من كتبه، فلا يضيرنا ذلك، لأن سبقهم لنا كان لتقدّم الغرب في الحضارة وتخلفنا عنهم. ويحسن بنا ان نصف بإيجاز حركة بعث التراث العربي في بلادنا.
بدأ العرب وأهل الشرق ينهضون شيئاً فشيئاً من سبات التخلف. وشرعوا يأخذون عن أوربا بعض نتائج حضارتها الحديثة، ومنها فن الطباعة. وقد أسست أولى مطبعة عربية في إستانبول سنة 1728. وطبع فيها عدد من كتب اللغة والأدب والتاريخ في العربية والتركية والفارسية.
وفي أواسط القرن التاسع عشر أسس أحمد فارس الشدياق اللبناني الأصل مطبعة “الجوائب” المشهورة في إستانبول. وطبع فيها عشرات من كتب التراث العربي عن المخطوطات المحفوظة في مكتبات إستانبول، نذكر منها “كتاب الصناعتين” لأبي هلال العسكري. ولا تبلغ مطبوعات هذه المطبعة مبلغ منشورات المستشرقين في التحقيق والتصحيح وتنظيم الفهارس العلمية. ولكنها تمتاز مع ذلك بأنها طبعت اعتماداً على مخطوطات جيدة صحيحة، اختارها أحمد فارس الشدياق من مكتبات إستانبول الفنية بالمخطوطات الجيدة من التراث العربي.
وفي عهد محمد علي باشا في مصر أسست دار الطباعة الأميرية في القاهرة سنة 1821. وهي أكبر مطبعة في الشرق، وتعرف بين العلماء بمطبعة بُولاق، لأنها كانت في محلة اسمها بولاق في ضواحي القاهرة. وكانت مطبعة حكومية، أنشأتها الدولة لطبع الأشياء الخاصة بمصالحها في أول الأمر. ثم أخذوا يطبعون فيها الكتب العلمية، وكتب التراث العربي. فطبع فيها خلال مائة عام من تأسيسها عشرات من كتب تراثنا، ولا سيما الكتب الكبيرة ذات الأجزاء الكثيرة التي لا يقدم على طبعها الأفراد والمؤسسات الصغيرة مثل معجم “لسان العرب” لابن منظور الإفريقي، وهو أعظم معجم لغوي في العربية. وقد طبع في 20 جزءاً؛ ومثل كتاب “المخصّص” لابن سِيدَه الأندلسي، وهو أوسع معجم في المعاني والصفات ألّف في العربية. وقد طبع في 17 جزءاً؛ ومثل كتاب “صحيح البخاري” الذي طبع على نفقة السلطان عبد الحميد الثاني العثماني في هذه المطبعة سنة 1313 من الهجرة في أربعة مجلدات ضخمة نفيسة.
وقد طبعت هذه الكتب اعتماداً على مخطوطات صحيحة جيدة. ولكن القائمين على طبعها لم يتبعوا طريقة المستشرقين العلمية. فجاء معظمها من غير تحقيق علمي، وخرجت خِلواً من الفهارس العلمية التي تعين العلماء والباحثين في الرجوع إلى الكتب، وتيسر الإفادة منها في البحث والدراسة.
وفي بيروت أسست المطبعة الكاثوليكية للآباء اليسوعيين سنة 1848، وطبع فيها عدد من كتب التراث العربي في اللغة والأدب، نذكر منها كتاب “الألفاظ” لابن السِّكِّيت، وديوان شعر الأخطل غوث بن غياث التغلبي النصراني، و”الحماسة” لأبي عُبادة البحتري. وقد طبع فيها بعض الكتب التي حققها المستشرقون، مثل كتاب “شرح المفضليات” لأبي محمد القاسم بن محمد بن بشار الأنباري الذي حققه المستشرق لَيَال الإنجليزي.
* * *
وبعد الحرب العالمية الأولى نَمَت النهضة العربية الحديثة واتسعت، وظهر أثرها في مجال الثقافة كما في سائر المجالات. فكثر تأسيس المطابع وأنشئت دور النشر في القاهرة ودمشق وبيروت وفاس وغيرها من العواصم العربية، وأخذت تخرج للناس كتاباً تِلْوَ كتاب من التراث العربي.
وأشهر هذه المطابع والدور مطبعة دار الكتب المصرية، وأطولها باعاً في إحياء آثار تراثنا. وهي تضاهي مطبعة بولاق القديمة في مكانتها وفي قيمة ما طبعته من الكتب. ومنها كتاب “الأغاني” لأبي الفرج الإصفهاني، وهو أكبر كتاب في الشعر والشعراء في الثقافة العربية؛ وكتاب “عيون الأخبار” لابن قتيبة؛ و”صبح الأعشى في صناعة الإنشا” للقَلْقَشَنْدِي؛ و”نهاية الأرب في فنون الأدب” للنُّوَيْري، وهما موسوعتان في الثقافة العامة؛ ومنها كتاب “الأمالي” لأبي علي القالي، وهو سفر فخم في اللغة والشعر والأدب. وعشرات غيرها من الأسفار. وتمتاز مطبوعات دار الكتب المصرية بأنها محقّقة مصححة، ومزودة بالفهارس العلمية المفيدة. وهي لذلك أقرب ما تكون إلى مطبوعات المستشرقين من كتب التراث العربي.
قويت النهضة العربية، وعظم شأنها بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وابتداء النصف الثاني من القرن العشرين. وأسست الجامعات ومعاهد الدراسات العالية في معظم الأقطار العربية. فزاد عدد المثقفين في المجتمع العربي، وازداد تبعاً لذلك الاهتمام بتراث العرب الثقافي، والعمل لإحيائه. ونشأت طوائف من العلماء العرب ذوي الخبرة والمعرفة في ميدان التراث القديم.
وفي هذه الفترة قلّ عمل المستشرقين في نشر التراث العربي، لأنهم كانوا قد طبعوا من أصول هذا التراث ما يمكنهم من دراسة الثقافة العربية. ولم تعد بهم حاجة إلى نشر ما بقي منه، لأنه ليس من تراثهم، ولا يعنيهم أمر إحيائه. يضاف إلى هذا السبب اكتفاء المستشرقين بما ينشره العلماء العرب الذين أخذوا الزمام، وبادروا إلى إتمام ما بدأ به المستشرقون قبلهم.
وعمدت بعض الدول العربية لإنشاء مؤسسات علمية تشرف على إحياء التراث العربي. فأنشأت وزارة الثقافة في دمشق مديرية إحياء التراث القديم التي تصدر سلسلة التراث القديم. وشرعت وزارة الثقافة في القاهرة في إصدار سلسلة باسم “تراثنا”. ودرجت وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية في الرباط على طبع آثار التراث التي أبدعها علماء المغرب. ومن أجود ما طبعته في الآونة الأخيرة كتاب “ترويح القلوب” لسلطان المغرب العالم الأديب أبي عبد الله محمد بن عبد الله العلوي، بتحقيق الدكتورة إلهام السوسي العبد اللّوي. وتساعد وزارة الثقافة في بغداد العلماء المحققين على طبع ما يحققونه من تراثنا. ووزارة الإرشاد والأنباء في الكويت تصدر سلسلة باسم التراث العربي. وقد صدرت من هذه الوزارات عشرات من الأسفار، محققة أوثق التحقيق، مصححة أحسن التصحيح. وهناك جهات أخرى في البلاد العربية، أمثال هذه الوزارات، تعنى بإحياء تراثنا، يضيق المجال عن ذكرها وتعداد أعمالها.
ويرفد مسعى هذه الوزارات نشاط مجامع اللغة العربية في دمشق والقاهرة وبغداد في سبيل بعث تراثنا، وذلك بطبع ما يحققه العلماء من أسفاره. ونشيد هنا بذكر مجمع اللغة العربية بدمشق، وهو المجمع العلمي العربي سابقاً. هذا المجمع العريق هو أقدم المؤسسات العلمية العربية وأنشطها على الإطلاق، في ميدان إحياء التراث العربي، حتى صار له اختصاص عُرِف به في العالم أجمع، وله فيه ماضٍ حافل بالأمجاد، وسلسلة طويلة ثمينة من المطبوعات، يطول أمر تعدادها. وما زال هذا المجمع العريق يسير قدماً في عمله العلمي الجليل في صبر وصمت، وفي إحسان وإتقان معاً. ومن مشروعاته الكبرى طبع “تاريخ مدينة دمشق” الكبير لابن عساكر. وهو موسوعة فخمة في اللغة والأدب والشعر والتاريخ وغيرها من فنون الثقافة العربية. وقد صدرت عنه تسعة وأربعون (49) مجلداً إلى اليوم.
* * *
وقد برز إلى ميدان إحياء التراث العربي عدد من دور النشر الخاصة في القاهرة ودمشق وبيروت وبغداد وغيرها من العواصم العربية. وراحت تتسابق في إصدار بعض الأسفار القيمة منه. نذكر منها دار المعارف في القاهرة، وهي تصدر سلسلة من أسفار تراثنا، أطلقت عليها اسم »ذخائر العرب«. والحقيقة أنها ذخائر ثمينة، وجواهر فريدة، تغذي الفكر، وتعجب النظر بطباعتها الأنيقة. ومن عيون تراثنا الذي أصدرته هذه الدار كتاب “تاريخ الرسل والملوك”، المصدر الأقدم والأقوم لتاريخ العرب والإسلام القديم. وقد صدر في عشرة مجلدات ضخام.
ومن هذه الدور الخاصة العاملة في نشر تراثنا »دار إحياء الكتاب العربي« في القاهرة لعيسى البابي الحلبي، وهي مكتبة مصطفى البابي الحلبي المشهورة سابقاً. ومن أمهات الكتب التي أصدرتها كتاب “الحيوان” وكتاب “البيان والتبيين”، وكلاهما لأبي عثمان الجاحظ. ومنها دار الفكر في دمشق وبيروت. ودار الشرق العربي في حلب وبيروت. ومكتبة المثنى في بغداد.
ويطيب لنا أن نعلن أن الكتب التي طبعت في المؤسسات العلمية العربية ودور النشر الخاصة كانت كلها بتحقيق العلماء من العرب أنفسهم أصحاب التراث. ووفّرت للعلماء الباحثين مصادر أصيلة لبحوث ودراسات حديثة كشفت جوانب الثقافة العربية الغنية، وبيّنت أثرها في بناء صرح الثقافة الإنسانية، وتوفير السعادة والسلام للناس أجمعين.
* * *
ونكمل حديثنا بالكلام على مستقبل التراث العربي، وحقيقة جدواه في بناء ثقافة عربية جديدة. وقد بيّنا آنفاً غير بعيد أنه ما زال قسم كبير من التراث العربي مخطوطاً غير معروف. وهو ذخيرة لا تقل في القيمة عن القسم المنشور المعروف. وينبغي لها أن تكشف وتنشر وتعرف.
وفي أعناق العلماء والمثقفين من جيلنا حق لتاريخهم ولثقافتهم وللتراث الإنساني عامة، لا يوفونه إلا إذا أخرجوا، منشوراً محققاً، خير ما بقي في خزائن الكتب العربية، في كل بلاد العالم، من مخطوطات صنفها أجدادنا في أبواب المعرفة كلها. وهي لا تزال قابعة في زوايا المكتبات، مهجورة منسية كالأيتام، تنتظر أهلها وأصحابها. ولو قيّض لها أن تخرج من عزلتها، ويطلع الناس على أمرها، لزادت تاريخنا نوراً وضاء يجلو ملامحه، وزودت ثقافتنا الحاضرة بما يجعلها تقوم على أسس آصَل وأثبت، وقواعد مكينة لبناء ثقافة عربية جديدة قويمة، كما قلنا آنفاً غير بعيد، ولأفادت على التراث الإنساني فضلاً كثيراً وخيراً عميماً.
وبناء على كل ما سبق نقول بأنه أمام العلماء والمثقفين من العرب مهمة شاقة في هذا الميدان، ذات شقين. الأول تقويم ما طبع طبعاً تجارياً من التراث العربي، وإعادة طبعه محققاً مصححاً. ونذكر مثالاً على ذلك كتاب “الفهرست” لابن النديم، و”المقدمة” لابن خلدون. وقد طبعا عدة طبعات ناقصة مبتورة، ويشيع فيها الغلط والتصحيف. وقد اشتغل بكتاب “الفهرست” صديقنا العلامة محمد بن تاويت الطنجي، رحمه الله، اعتماداً على مخطوطة أصيلة في مكتبة شستر بيتي في دوبلين عاصمة إيرلندا. وعني هذا العالم أيضاً بتحقيق “المقدمة” لابن خلدون بعد أن اطلع على مخطوطاتها الموزعة في العالم، واختار منها النسخ الجياد، واعتمدها في التحقيق. ولكن الأجل المحتوم وافاه قبل إنجاز أعماله العلمية.
والشق الثاني من المهمة هو العمل بعزم وتصميم لإحياء ما تبقى من تراثنا، وهو كثير موزع في أنحاء العالم. ونذكر مثالاً هنا كتاب “عيون التواريخ” لابن شاكر الكتبي، وهو بحر واسع في تاريخ العرب والإسلام.
والمهمة شاقة حقاً. والطريق إلى إنجازها صعبة المسالك طويلة. على أن العزيمة مع الدأب والجلد كفيلة جميعاً باجتياز كل المصاعب.
مرجع
([1]) تاريخ الخلفاء، ص. 101.