بعد مضي حوالي أربعة عقود ونصف، سيتم إخراج رفات الديكتاتور الإسباني، فرانثيسكو فرانكو، من مرقده الأخير، ليعاد دفنه في مقبرة عادية بعيدا عن العاصمة الإسبانية، حتى لا يصبح من جديد مزارا يتجمع حوله ما تبقى من فلول أنصاره الحالمين بعودة نظام شبيه بالذي أقامه الطاغية بعد انتصار التمرد العسكري الذي قاده ضد الشرعية الدستورية عام 1936 وكلف إسبانيا ألاف الضحايا وفصولا من المآسي المرعبة .
وسينفذ الإجراء قريبا،قبل الانتخابات التشريعية المعادة يوم العاشرمن نوفمبر المقبل، حسب تصريح لرئيس الوزراء الإسباني، بيدرو سانشيث، الذي جعل من “فرانكو” قضية أساسية لإخراجه من قبره الحالي في المجمع الديني الضخم (وادي الشهداء) حيث يحتل قبره، موقعا مميزا، تغطيه لوحة رخامية كبيرة نقش فوقها اسم الجنرال بأحرف بارزة، استفزازا للأحياء وتمييزا له عن مراقد الأموات الآخرين الذين يقاسمونه نفس الثرى.
وكانت عائلة فرانكو، طعنت أمام القضاء، في قرار الحكومة الاشتراكية لكن الأخير أنصف السلطة السياسية واسقط كافة الاعتراضات بما فيها تلك التي تعللت بالأخلاق المسيحية وحرمة الأموات وأيضا مواثيق حقوق الإنسان.
والمؤكد أن العدالة الإسبانية، استندت، خلال جميع مراحل التقاضي، على حيثيات سياسية وحجج قانونية ودينية قوية؛ ذلك أن قرار إخراج فرانكو من رمسه هو مطلب شعبي قديم، صادق عليه البرلمان منذ سنوات، دون اعتراض صريح حتى من الحزب الشعبي المحافظ وهو الوريث المعنوي للديكتاتور فقد اختار نوابه التغيب عن جلسة التصويت التي عقدها مجلس النواب.
ويبدو أن الذي سهل مهمة المحكمة، ليس تنصل الطبقة السياسية من إرث فرانكو الدموي والشعور بالعار من الانتساب إليه؛ وإنما كذلك الموقف المحايد الذي اتخذته الكنيسة على الصعيدين المحلي في إسبانيا وروما. لم تعرب سلطة الفاتيكان عن أي تعاطف مع “فرانكو” ولم تصغ لمناشدات من تبقى من عائلته؛ مثلما لم يتجرأ احد للدفاع عن “حرمة” عظام الجنرال الدموي وقد أصبحت رميما، باستثناء أصوات مبحوحة أطلقتها بقايا معدودة من حزب “الفلانخي” (الكتائب) الذراع السياسي للديكتاتور.
واللافت في هذه القضية المزعجة، أن القصر الملكي الإسباني، وقف من جهته على الحياد التام ولم يصدر عنه أي تلميح، ولو من قبيل المجاز والرمز؛ علما أن “فرانكو” برر انقلابه العسكري للدفاع عن الملكية والكنيسة؛ وهو لم يورث أحدا من العسكريين الذين حكموا معه، بل أشرف على تهييء الملك خوان كارلوس، ليستعيد حكم”آل بوربون” بعد رحيل الديكتاتور الذي اختار لقب “رئيس الدولة” بدل رئيس الجمهورية.
ومن المفارقات أن يتزامن الدفن الثاني لفرانكو، مع بروز قوي لليمين المتطرف في إسبانيا، ممثلا في الوعاء التنظيمي (حزب “فوكس”) الذي حقق اختراقا لافتا في الاستحقاقات الأخيرة المحلية والوطنية، ما ساهم في خلخلة المشهد السياسي في إسبانيا.
استغلت الخلايا لنائمة لليمين المتطرف، وضعية الانقسام السياسي متجلية في فشل الأحزاب التقليدية تشكيل حكومة مستندة على أغلبية مستقرة. لم يتيسر كذلك انتقال سلس من القطبية الحزبية(اليمين واليسار) إلى تعددية الائتلاف، كما هو الحال في أغلب الديمقراطيات الغربية.
وليس مؤكدا أن الانتخابات التشريعية المقبلة، ستنهي الخلاف الحالي بين الفرقاء السياسيين في إسبانيا. ليس مستبعدا تكرار نتيجة متقاربة في الاستحقاقات المقبلة؛ فلا يستطيع حزب بمفرده تشكيل حكومة وتصبح التحالفات عسيرة؛ اللهم إلا ذا فرضت الضرورة القصوى اتحاد القوى الديمقراطية ضد خطرين اثنين : النزوع الانفصالي في إقليم كاتالونيا وانتقال عدواه،وخروج اليمين المتطرف من جحوره المظلمة، مستفيدا من الأجواء الشعبوية في عدد من البلدان.
كسب اليسار المعركة الرمزية ضد فرانكو وهو ميت. انتقم بتعريته، لأرواح الضحايا الذين سقطوا جراء طغيانه واستبداده، سواء في أتون الحرب الأهلية أو خلال سنوات حكمه البائد.
هو انتصار رمزي في المحصلة النهائية؛لا يحل المعضلات الصعبة التي تواجهها البلاد بسبب تشبث اليمين واليسار بمواقفهما التقليدية وهي باتت متجاوزة.
إن خروج إسبانيا بسلام، من أزمتها السياسية الراهنة، مرهون بالتقارب والتفاهم بين قوى اليمين الليبرالي واليسار الاشتراكي المعتدل. هاتان القوتان يمكن أن تشكلا تحالفا براغماتيا عريضا في شكل كتلة برلمانية محكومة بميثاق ديمقراطي، يبعد عن البلاد خطر الانفصال ويوقف زحف اليمين العنصري كما يضمن استقرار النظام في محيط أوروبي مضطرب.
لقد ظهرت إشارات مطمئنة ولكنها خجولة، تسير في هذا الاتجاه المتفائل؛ أعرب عنها بأسلوب فيه الكثير من البلاغة والمواربة اللغوية، زعماء الكتل الحزبية الأساسية: الاشتراكي والشعبي ثم ثيودادانوس. الأخير سارع إلى التكفير عن خطأه القاتل بالاصطفاف مع اليمين المتطرف.
انتصر فرانكو في الماضي، لأنه نجح في تعميق الفرقة بين مكونات المعسكر المعادي له. وليس من باب المصادفة التاريخية أن كانت قوى اليسار والليبراليين، قطبي الراحة في ذلك التكتل الذي هزمته شراسة فرانكو، وتأمر الفاشية والنازية وكذلك عجز وتخاذل القوى الديمقراطية الأوروبية.
بعض المعلقين الإسبان، يشبهون أوضاع بلادهم الحالية بما كانت عليه قبل اندلاع الحرب الأهلية. هو تشبيه مبالغ فيه أملاه الخوف من مصير غامض لا يمكن أن يبعده إلا انتصار القوى المعتدلة في تشريعيات نوفمبر 2019.