امتد العمرطويلا، بالرئيس الفرنسي الأسبق”جيسكار ديستان”غادر هذه الدنيا يوم أمس عن عمرناهز 94 عاما،جراء إصابته بالفيروس،الذي خطف الرؤساء والعوام على حدسواء.
أتاح له العمر المديد، البقاء قريبا متصلا بالمشهد السياسي الفرنسي،بعد خروجه “الكئيب”من قصرالإليزيه،في مايو 1981 إثر هزيمته أمام الزعيم الاشتراكي الداهية:فرانسوا ميتران،منتقما لهزيمته عام 1974 أمام ديستان، وإن بفارق أصوات ضئيل؛وليحقق ما فشل فيه سلفه ،فقد ظل سيد الإليزيه القوي،على مدى ولايتين (14عاما) كاملتين،رغم معاناته من مرض السرطان،الذيظهرت عليه بعض علاماته المبكرة في غضون الولاية الأولى؛لكنه وبمكره،نجح في إخفاء المخفي، مستفيدا من قامته المهيبة وتجربته،وزيرا للداخلية في الجمهوريةالرابعة.
لم تكن الظرفية الوطنية والدولية،باعثا علىنجاح الرئيس ديستان.تزامن حكمه مع ما سمي”الصدمة البترولية” الناتجة عنحرب أكتوبر عام 1973 بين مصر وسوريا من جهة،وإسرائيل المدعومة دائما من الغرب.
وفي تلك الحرب استعمل العرب لأول مرة،بعض أوراقهم الرابحة، بفضل المملكة السعودية وبدفع شخصي من الملك الراحل فيصل بن عبد العزيز.
ارتفعت أسعارالنفط في الأسواق العالمية ونشطت البورصات العالمية، فجنت الدول المصدرة أموالا طائلة،ساعدتها في تمويل مشاريعها التنموية ونهضتها الاقتصادية.
كانت فرنسا من بين الدول الأوربية المتأثرة سلبيا من ارتفاع كلفة الطاقة، ما سبب لها انكماشا اقتصاديا وتراجعا في معدل النمو، وارتفاعا في نسبة البطالة، فساد احتقان اجتماعي: النقابات والشارع في جهة، ورئيس الجمهورية في جهة مقابلة .كانت المواجهات والاتهامات مستمرة.
استعان ديستان،عقب التخلص من جاك شيراك، وزيرا أول، المزعج له، بأستاذ كفء في مادة الاقتصاد هو، ريمون بار، الذي حافظ على التوازنات المالية، مستفيدا من توجيه الرئيس كوزير سابق للقطاع، لكنهما لم يستطيعا تلبية مطالب العمال والفئات الاجتماعية التي كانت تنظر لجيسكار،كممثل للرأسمالية الجديدة وليس مناصرا لها.
أدت الأزمة الاقتصادية في فرنسا، إلى عقد تحالف بين أحزاب اليسار،ممثلين في ركيزتيه التاريخيتين: الحزب الشيوعي، بزعامة جورج مارشي، والاشتراكي الذي نجح بزعامة ميتران، في لملمة أطرافه وتياراته.
تقوى اليسار،بعد توصل الحزبين الكبيرين إلى صياغة” البرنامج المشترك” الذي خاض ميتران،مرشح اليسار، معركة الرئاسة،على أساسه،انتهت بفوزه المدوي.
غادرجيسكار،القصر الرئاسي، حزينا محبطا من تخلي الشعب الفرنسي عنه، رغم ما أنجزه من إصلاحات في بنية الدولة والمجتمع؛ لكنه سرعان ما استأنف نشاطه السياسي، نائبا في البرلمان ورئيسا لجهة؛ قبل أن يلتحق بالمجلس الدستوري؛ موجها اهتمامه لأوروبا التي ناضل من أجل وحدتها، بكل طاقاته الفكرية وخبرته السياسية وتنسيقه مع ألمانيا ومستشارها “هيلموت شميث” وهو أي،ديستان من صاغ مع لجنة مشروع دستورالاتحاد الأوروبي عام 2005 الذي رفضه الفرنسيون في استفتاء.
الحلف الألماني الفرنسي، هو الإنجاز الأبرز للرئيس ديستان،لكنه لا ينفرد به. له شريك مؤسس هو الجنرال ديغول وصديقه المستشار أديناور؛ أما الشريك الثالث في تحقيق التقارب بين “ضفتي نهر الراين” فهو الرئيس فرانسوا ميتران، الذي جمعته صداقة قوية ورؤية موحدة مع المستشار، هيلموت كول. تجاوزا مآسي الماضي وتخطيا الفوارق الإيديولوجية،مغلبين الرهان الأوروبي.
لم تكن حصيلة رئاسة ديستان، في الداخل بأقل مما حققه في الخارج. يعود إليه الفضل في بلورة قوة تيار الوسط السياسي، كبديل لليسار واليمين التقليديين. انفتح بجرأة على المجتمع المدني،حيث ادخل شخصيات فكرية مستقلة في حكوماته المتتالية ؛مدللا على أن فرنسا يمكن أن يحكمها تيا واسع يتموقع بين اليمين الليبرالي والوسط بتلويناته السياسية والفكرية.
أعانته نزعة الاعتدال، على إدخال إصلاحات اجتماعية واقتصادية،تجلت في نهوض لافت للمرأة التي حازت في عهده الحق في الإجهاض والطلاق المتفق عليه، إلى غير ذلك من الحقوق التي كانت محرومة منها.
أصلح ديستان،الإعلام وحرره من احتكار الدولة وشجع الرأسمال الوطني على اقتحام الميدان، إعجابا منه بالتجربة الأميركية، رغم ما وجه له من نقد بتوظف الإعلام لصالحه، في كثير من المناسبات وربما لغايات نبيلة أيضا، وخصوصا ما يتعلق بنزوع نحو تحديث المجتمع والإعلاء من ثقافة وتقاليد التعددية والانفتاح الواسع.
ولأن، ديستان، كان شاعرا بثنائية ونفاق المجتمع الفرنسي، فقد تبنى تحديثا متوازنا، بالاعتماد على الفئات المجتمعية التواقة إلى التغيير؛ دون إحداث هزات قوية في معسكر اليمين المحافظ.
دشن ذلك التوجه في الحملة الانتخابية الرئاسية،معتمدا على الصورة وأساليب التواصل المؤثرة في الرأي العام لدرجة أن منتقديه في ذلك الوقت عابوا عليه الانبهار بالنمط الأميركي.
ويمكن الزعم في هدا الصدد أن الرؤساء الثلاثة الذين تقاسموا القناعة بالرهان الأوربي، هم نفسهم الذين غيروا فرنسا: كل بأسلوبه وعلاقاته والقوات التي اعتمد عليها: ديغول أرسى المؤسسات واخرج البلاد من تداعيات الحرب ومخلفاتها ونقلها إلى الاستقرار السياسي والانطلاق الاقتصادي،وسار على نفس المنهاج الرئيس جورج بومبيدو، الذي لم يمهله القدر، ولكن ما قام به من إصلاحات ستظل علامة بارزة في تاريخ فرنسا.
أتاحت السنوات السبع لديستان،إحداث نقلة مجتمعية عميقة،لاقت ارتياحا والتفافا من الناس، مثلما طور أداء الاقتصاد وعصرن الإدارة وشجع الثقافة البراغماتية في علاج مشاكل البلاد.
لكنه، رغم أن حصيلة حكمه إيجابية عموما ؛بالنظر لظروفها، وعلاقة ذلك بالاكراهات التي واجهها، لكن الفرنسيين ودعوه بغير ما استقبلوا عهده بحماس وارتياح. ربما اشتموا أن روحه ارستقراطية متعالية، ولو ادعى الاقتراب من عامة الناس. اعتبروه تصنعا منه لاستقطاب الأنصار.
أكيد،أن الرئيس الفرنسي الثالث في الجمهورية الخامسة، اخطأ في مجالات؛ مثلما أخطأ القادة والعظماء من قبله. ولأنه كاتب ومفكر، فقد حاول تبرير أخطائه والدفاع عن نفسه، ليكون التاريخ رحيما في الحكم عليه.