واصلت دول افريقية صديقة للمغرب،سبق لبعضها أن سقطت في فخ الاعتراف بجمهورية الحالمين القابعين في مخيمات “تيندوف” (جنوب غرب الجزائر)؛ فتح قنصليات وتمثيليات دبلوماسية لها،في مدينة “العيون”حاضرة الصحراء المغربية،لتكمل العمل الذي تقوم به سفاراتها المعتمدة في العاصمة الرباط.
وبديهي أن هذا التحول الدبلوماسي الذي يتم بوتيرة متسارعة، لصالح المغرب، من خلال الوجود القنصلي فوق قطعة ذات رمزية كبيرة في سجل كفاحه الوطني.
خطوات شجاعة وجريئة تقدم عليها دول،مارست حقوقها السيادية،مقاومة أساليب الترغيب والترهيب والضغط،حد التهديد،من لدن جارة المغرب الشرقية.
اتخذ الأفارقة قرارهم،بوعي ومسؤولية، وبعد استجماع كافة المعطيات المسوغة لخطوتهم؛ دون إغراء ومساومة رخيصة من المغرب، الذينهج دائما حيال أفريقيا سياسة النفس الطويل والصبر على المكروه من “شقيقته” الجزائر؛متفهما أسباب”خطأ” الاعتراف المتسرع بالكيان السياسي الذي نصبت خيامه بأوتاد واهية،عناصر جبهة البوليساريو،بتيندوف، منتصف سبعينيات القرن الماضي؛في ظل سياقات سياسية إقليمية ودولية، وفي أجواء حرب باردة بين القوى الكبرى،فضلا عن”مضاربات” الدبلوماسية الجزائرية وأسلوب البيع والشراء،للاعتراف بشرعية مولود مشوه.
أجواء لم تعد قائمة في الظروف الراهنة،بالنظر إلى التحولات العميقة التي حدثت في منظومة العلاقات الدولية، انتهى معها تصنيف وترتيب الدول وخاصة الإفريقية،على أساس الانحياز لمعسكر أو حلف ضمن المتنافسين فيما بينهم على النفوذ والهيمنة.
نهضت إفريقيا وسقطت أنظمة متورطة، وحل محلها زعماء وقادة حملتهم الديمقراطيات الفتية، إلى كراسي السلطة والمسؤولية. تحمل المغرب في واقع الأمر كثيرا، ولكن خسارة المراهنين على تحويل الوهم ،إلى كيان “ثوري” كانت أفدح.
مع مرور الوقت، انقشعت السحب المشبعة بالغبار الإيديولوجي الذي أعمى أبصار زعماء أفارقة، عفا الله عنهم، وقد غادر أغلبهم الساحة السياسية، دون أن يذكروا بخير.
واتضحت لعواصم افريقية، الحقائق المضللة، الواحدة تلو الأخرى، تلك التي استعملتها الجزائر في حربها السرية والمعلنة ضد المغرب، لإعاقة استكمال وحدته الترابية؛ناكثة العهود ورافضة الحلول العقلانية التي راعت المصالح المشتركة في إطار تعزيز الصرح ألمغاربي.
لكن الجزائر، قابلت باستعلاء، كل الجهود برفض معاند، بل وبالتنقيص منها بلغة عدائية خلت من اللباقة الدبلوماسية المتعارف عليها.
وبينما باشر المغرب دبلوماسية جديدة منذ بداية العهد الجديد، بقيادة عاهله الملك محمد السادس، مراهنا في رؤيته على تعميق التعاون المتكافئ والمفتوح مع دول القارة الأفريقية.
مضت الرباط غير عابئة بالعراقيل التي وضعتها الجزائر في طريقها نحو أشقائها الأفارقة : إذ حيثما تحرك المغرب إلا وتسبقه الجزائر أو تتبعه للتشكيك في مساعدته القارة.
راهن االمغرب على الديمومة وطول النفس حتى تجليا في القرار التاريخي المتبصر، البعيد النظر الذي اتخذه جلالة الملك محمد السادس، في قمة “أديس أبيبا” بالعودة المظفرة والمرحب بها إلى الحضن الإفريقي. وكأن جلالته يقول للأشقاء الحاضرين المصفقين له: إن الحق يعلو ولا يعلى عليه ؛وأنه مهما تأخر، لسبب ما، فإنه حين يأتي يمحو، بزخمه المعنوي، ظلم ذوي القربى…
لم تكن عودة المغرب مفاجئة، بل تتويجا لمسلسل تشاور مع قادة وحكماء أفارقة، توثقت دعائمه من خلال جهد متبادل في الإقناع وفي الاستماع؛ بحثا عن مصلحة مشتركة للقارة السمراء، متجاوزا(المغرب) غير عابئ بـ “اللعب الصغير” الذي مارسته صنيعة الجزائر ودميتها الدبلوماسية .
أصبح التعاون المغربي الأفريقي، الثنائي والمتعدد، ناجزا بل ركيزة أساسية في منظومة السياسة الخارجية المغربية.
وليس صدفة أن يتعزز هذا التوجه في الهرم الحكومي المغربي، بإحداث منصب تحت مسمى الوزير المنتدب في التعاون الإفريقي، إلى جانب رئيس الدبلوماسية؛ ليتطور الأمر بإضافة “الشؤون الأفريقية” إلى الوظائف التقليدية لوزارة الخارجية والتعاون؛ ما يعني أن أهمية التعاون وتوطيد العلاقات استوجبا من الجانب المغربي إحداث وعاء إداري، يتقاسم تدبير الملفات الأفريقية تحت مظلة السياسة الخارجية التي يحدد معالمها الكبرى، جلالة الملك، بمقتضى صلاحياته الدستورية.
وإذا كان المغرب قد عاد إلى إفريقيا، غير مكترث بالتعقيدات القانونية، فها هي القارة تعود إليه، بخظوات حثيثة إلى أن يسدل الستار على مسرحية “تيندوف” التي سببت ضررا للمغرب والجزائر وحتى أفريقيا. وسيجد الممثلون المشاركون فيها “أنفسهم شبه عراة”، تحت رياح خيام تمزقت خرقها البالية وطارت في الهواء مثقلة برمال الصحراء.
وخلال العقود الماضية وفي ذروة اشتداد النزاع بين الجزائر والرباط، طالما أعرب الملك الراحل الحسن الثاني عن مقترحات، مفادها أنه يتفهم ورطة الجزائر وأنه مستعد لمد اليد لجارته لإخراجها من “ورطة” صنعت بأيديها.
ولما آل الحكم إلى وارثه،جلالة الملك محمد السادس،توجه بالأحضان إلى الأشقاء الجزائريين، معبرا عن الإرادة في تجاوز الماضي وكسر أغلاله، لينطلق البلدان ومعهما باقي الدول المغاربية، في أفق تعاون وتكامل، قائم على أساس المصلحة المشتركة لشعوبها.
العرض السياسي ما زال قائما، ربما ينبغي تحيينه على ضوء المستجدات. وكما في الماضي، ما زالت الجزائر تتوهم أنها ممسكة بالكرة، دون أن تنتبه إلى أن الريح قد تسربت منها. وبالتالي أصبحت ثقيلة للعب بها في الميدان.