تكشف وقائع الدبلوماسية والسياسة، يوما بعد آخر، سلامة الموقف المغربي القاضي بالعودة للعمل داخل الإتحاد الإفريقي ومؤسساته المختلفة. ولا يتعلق الأمر هنا بتقليص مساحات التحرك التي كانت حكرا تقريبا على خصوم المغرب ومناهضي قضيته الوطنية في الصحراء المغربية فحسب، وإنما، أيضا وأساساً، من خلال الإنتقال إلى الهجوم السياسي والدبلوماسي، انطلاقا من مؤسسات هذا الإتحاد بالذات، ضدا على سياسات كانت ترمي إلى إبقاء المغرب خارج حلبة الصراع السياسي والدبلوماسي الرسمية على الساحة الإفريقية برمتها. وهو ما استغلته إلى أبعد الحدود الدبلوماسية الجزائرية وحلفاؤها في مناوءة الموقف المغربي من قضيته الوطنية بشكل منهجي ومتواصل، دون أن تجد أمامها موقفا مغربيا مباشرا وحازما خلال طول مدة غياب المغرب الإضطراري عن مؤسسات الإتحاد. إذ لم تكن المواقف الإعتراضية أو المتحفضة من بعض تحركات خصوم المغرب من قبل أصدقائه قارة على أهميتها على تغيير مجرى الأمور.
وقد تجلى مكسب هذا التطور الجوهري في الموقف المغربي، في عدد من المناسبات، بعد ترسيم عودته باعتبارها مرحلة تأسيسية في المجال السياسي والدبلوماسي تجاه القارة الإفرقية. وبطبيعة الحال، فإن المغرب لم يتوقف يوما عن التأكيد للمتشككين في سداد موقفه من الإتحاد الإفريقي، أن هذا القرار له ما بعده، بشكل نوعي، ولصالح قضاياه الحيوية وقضايا إفريقيا الأساسية، على جميع المستويات.
ولكي لا نتعرض إلى جميع الخطوات والمبادرات المغربية التي رأت النور خلال السنتين الماضيتين، فإن عضوية المغرب في مجلس السلم والأمن التابع للإتحاد الإفريقي ورئاسته لهذه المؤسسة خلال شهر سبتمبر أيلول قد أكد، بطريقة جلية، فعالية المغرب ودوره الحاسم في الإتحاد، وأن ابتعاده المؤقت عن المنظمة القارية الإفريقية كان خسارة حقيقية لإفريقيا، التي كان يطغى على سياساتها منطق تصفية الحسابات، بما لم يخدم، قط، المصالح العليا للقارة في مختلف المجالات.
وقد جاء الإجتماع الوزاري لمجلس السلم والأمن الذي انعقد في نيويورك تحت شعار ” الترابط بين السلم والأمن والتنمية: نحو التزام جماعي بالعمل”، على هامش الدورة الرابعة والسبعين للجمعية العامة لأمم المتحدة بمبادرة من المغرب، وتحت رئاسة وزير الخارجية والتعاون الدولي ناصر بوريطة، ليدحض كل الترهات التي أطلقها خصوم الوحدة الترابية حول الموقف السلبي المزعوم للمغرب داخل الإتحاد الإفريقي. كما أثبت أن عودة المغرب في حد ذاته قيمة مضافة للعمل الجماعي الإفريقي.
إن تأكيد المغرب، مرة أخرى، على الإرتباط العضوي بين السلم والأمن والتمنية والإستقرار في افريقيا والدفع بمجلس السلم والأمن إلى تبني موقف واضح في هذا المجال، وهو ما ثمنته قيادات إفريقية ودولية وازنة، قد جاء ليشكل انطلاقة جديدة في عمل الإتحاد الإفريقي ومؤسساته.
وبالفعل، فإن مجلس السلم والأمن التابع للإتحاد الإفريقي قد أكد في بيانه الصادر عن اجتماع نيويورك برئاسة وزير الخارجية المغربي “على الأهمية التي يكتسيها الترابط القائم بين السلم والأمن والتنمية، في ضمان فعالية جهود الوقاية من النزاعات وحفظ وتعزيز السلام في إفريقيا”.
كما شدد، “على الدور المحوري للأجرأة الكاملة لكافة الآليات المتاحة في إطار “لجنة حكماء إفريقيا” و “هيئة الحكامة” في تحقيق السلم والأمن والتنمية في إفريقيا وتقليص عدد النزاعات في القارة”.
ولم يفت البيان الختامي الحث “على تعزيز إجراءات الإتحاد الإفريقي المتعلقة بمنع النزاعات من أجل الحفاظ على السلم والاستقرار، وإنقاذ الأرواح البشرية، وتجنب تدمير البنى التحتية والمرافق الحيوية”.
“كما أكد على الصلة بين الإرهاب والتطرف العنيف والجريمة المنظمة عبر الوطنية، داعيا الدول الأعضاء إلى التنفيذ الكامل للوائح الإتحاد الإفريقي، مرحبا بالمبادرات التي اتخذتها بلدان منطقة حوض بحيرة تشاد، وخاصة الاستراتيجية الإقليمية لتحقيق الإستقرار والانتعاش والقدرة على التكيف في المناطق التي استهدفتها جماعة بوكو حرام، فضلا عن المقاربة الشاملة التي اعتمدتها مجموعة الساحل 5، وكذا القرار الأخير الذي اتخذ في 14 شتنبر 2019، خلال مؤتمر القمة الاستثنائي لرؤساء دول وحكومات المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا بتعبئة مليار دولار من أجل بلورة خطة عمل شاملة لمكافحة الإرهاب بالمنطقة”.
إن بعض التأمل في هذه القرارات، يبين أن بصمة المغرب حاضرة بقوة في شكلها ومضمونها، لأن المغرب لم يتوان قط عن إبراز الترابط بين الأمن والسلم والتنمية. وهو ما دفعه إلى تبني مقاربة تضامنية على الصعيد الإفريقي لاعتباره أن مستقبل القارة مرهون بمدى قدرة قادتها على تبني سياسات مناهضة لتغذية بؤر التوتر وتجنب كل ما يمكن أن يساهم في خلق بيئة ملائمة للإرهاب والجريمة المنظمة واستغلال شعارات ظاهرها “تحرري” وباطنها وأهدافها المساس بمصالح الشعوب الحقيقية في أمنها واستقرارها ووحدتها الوطنية والترابية.
وبهذا المعنى، فإن المغرب قد ساهم من موقع قيادة مجلس السلم والأمن الإفريقي، في إطلاق ديناميكية جديدة ستعود حتما بالنفع على مجمل إفريقيا، متى تم الإلتزام بقرارات وتوصيات الإجتماع الأخير في نيويورك من قبل القيادات الإفريقية.