خطاب رئيس أركان الجيش الجزائري أحمد قايد صالح بخصوص الإعداد للإنتخبات الرئاسية، في الثاني عشر من ديسمبر المقبل، واضح تماماً وصارم إلى أبعد الحدود، في تحديد موقف المؤسسة العسكرية الجزائرية وسلوكها في المرحلة المقبلة. لكن هذه الصرامة وذلك الوضوح يكشفان بالذات أهم نقط ضعف ذلك الخطاب، كما يسمحان بطرح أسئلة أغلبها استنكاري حول مستقبل العملية السياسية الجارية في الجزائر، على مساريها الشعبي والرسمي.
فليس صعباً تدبيج خطاب سياسي إيجابي، شكلاً، وواعد، مضموناً، على مستوى الظاهر، لأن هذه ملكة مشتركة بين بني البشر جميعاً وخاصة بين السياسيين هواةً كانوا أو محترفين لا فرق. غير أنه ليس سهلاً تدبيج خطاب مطابق للحالة من حيث كونها حاضراً ملموساً ومستقبلاً يمكن استشرفه في آن واحد، بل ومن حيث هي أيضا جزء من الماضي القريب إن لم يكن البعيد جدا.
وفي ضوء هذه المقدمة، التي ليست عامة وهلامية كما قد يبدو لأول وهلة، بل هي محصلة التفكير في خطاب رئيس أركان الجيش الجزائري بوهران يمكن تسجيل ملاحظات كاشفة للغايات الثاوية تحت خطاب الرجل العسكري القوي في البلاد منذ فرض استقالة الرئيس عبد العزيز بوتفليقة على أقل تقدير، في عز انتفاضة الشعب الجزائري في وجه النظام السياسي القائم وما اعتبره الجزائريون تلاعبا غير مقبول بإرادته من قبل الفئة الحاكمة في البلاد منذ الإستقلال عن فرنسا عام 1962.
الملاحظة الأولى:
كان الأولى أن يكون هذا الخطاب من بلورة رئيس الدولة المؤقت عبد القادر بن صالح باعتباره المسؤول من حيث الشكل على المسار السياسي في البلاد خلال المرحلة الإنتقالية التي فرضتها أوضاع الأزمة التي تكر منها البلاد حتى ولو تم الإعتراف أن وضع الرئيس المؤقت لم يعد دستوريا منذ انتهاء الفترة التي حددها الدستور لإجراء انتخابات رئاسية بعد شغور منصب الرئاسة.
الملاحظة الثانية:
هو خطاب بصيغة التعليمات ليس لقوى الجيش فحسب، لأن هذا قابل للتبرير والتفهم انطلاقا من الأنظمة العسكرية المتبعة، لكنه خطاب موجه أيضا لمختلف المصالح الأمنية التي هي تابعة لوزارة الداخلية التي تقوم بمهامها تحت توجيه رئيس الحكومة باعتباره رئيس السلطة التنفيدية تحت مظلة رئيس الدولة المؤقت في الوضع الراهن.
الملاحظة الثالثة:
طغيان لغة التهديد والوعيد على مفردات الخطاب في وقت كان يمكن فيه أن تكون لغته تستمد قوتها من قوة الإنتفاضة الشعبية الجزائرية، لكن يبدو أن خطاب رئيس الأركان لم يعد يلتفت إلى تلك الإنتفاضة وإرادتها، بل أصبح يعتبر أن مطالبها ليست غير الترجمة الفعلية لمحاولات التدخل في السياسة الداخلية للبلاد التي يعلن أنه كفيل بقمعها وإفشالها. فكأنه يريد أن يؤكد لمن يحتاج إلى تأكيد أنه الجنرال الحاكم في البلاد وأنه هو الذي يحدد مفردات المرحلة ومهامها وكل من لا يخضع للأوامر العسكرية فإنه يغامر بمستقبله.
الملاحظة الرابعة:
وهي نتيجة منطقية للتي قبلها، اعتماد الخطاب لغة الأنا الصريحة في التعامل مع مختلف المؤسسات، الأمر الذي يعني أن رئيس الأركان يتحدث باعتباره الحاكم الفعلي ودون منازع للبلاد. وهو ما لا يتطابق مع نصوص الدستور وإن كان استمراراً لممارسة لم تعد خافية عن أي مراقب سياسي موضوعي داخل البلاد وخارجها، وهي التي تفيد أن الحكم الفعلي بيد العسكر منذ ستينيات القرن الماضي، وأن كل الرؤساء الذين تداولوا على السلطة في جلهم من المؤسسة العسكرية أو من بين الشخصيات التي زكتها تلك المؤسسة بالذات.
وإذا كان هذا هو التعبير الفعلي عن الواقع، فماذا يعنيه؟ ومن يعنيهم قايد صالح؟ بأنهم أفسدوا العملية السياسية في البلاد؟ وأن مثل هذا العهد قد ولى إلى غير رجعة؟
إذا كان يعني المجموعة المحيطة بالرئيس المستقيل فهذا موضوع تم حسمه، على ما يبدو، من خلال الزج بعدد منهم في السجن وإصدار أحكام لمدد طويلة في حقهم كما هو شأن السعيد بوتفليقة شقيق الرئيس السابق واللواء مدين الملقب توفيق وكذلك اللواء طرطاق الذين حوكموا بخمسة عشر عاما سجنا نافذاً.
إن محاولة تبرئة المؤسسة العسكرية من تهم التحكم في النظام السياسي وإفساد مختلف الإستشارات الشعبية ليست قادرة على الصمود أمام وقائع تاريخ ممارسة هذه المؤسسة. بل إن سلوك رئيس الأركان الحالي ليس غير التأكيد على أن القطع مع تلك الممارسات ليس وارداً في الزمن المنظور خاصة إذا جرت الرئاسيات الجزائرية وفق السيناريو الذي وضعته المؤسسة العسكرية والذي أفصح عنه أحمد قايد صالح في أكثر من خطاب موجه إلى العسكر وإلى عموم الشعب الجزائري بعد إعلانه الخروج من دائرة الرئيس عبد العزيز بوتفليقة مع تصاعد الإنتفاضة الجماهرية التي كانت تطالب برحيل النظام القائم بجميع مكوناته ورموزه.
قد يتم النظر إلى سلوك قايد صالح باعتباره تحركا استباقيا لإرضاء جزء من الشارع من جهة، وتصفية الحسابات مع جزء من السلطة القائمة من جهة أخرى، لكن هذا ليس يعني أن من الوارد التفكير في ترك الأمور تجري وفق إرادة الشعب وقواه السياسية والمدنية. بل إن العكس تماما هو الذي كان غاية هذا التحرك وهو تكريس وتجديد حكم العسكر وإعلان الإستعداد المطلق لقمع كل تحرك سياسي مدني مناهض لبقاء السلطة الحقيقية بين أيدي العسكريين.
إن التهم التي أوردها قايد صالح في مجمل خطبه منذ تحكمه في مجريات الحياة في قمة هرم السلطة وخاصة في خطابه الأخير في وهران حيث ربط كل معارض لتصوره وممارسته بالشرذمة القليلة المتآمرة على البلاد والعميلة للأجنبي، تدل على أن أسلوب التخوين العزيز على مختلف الأنظمة الشمولية، قد أصبح على صدر أولويات تقويم الأمور بالنسبة للمؤسسة العسكرية برمتها ربما، لكن بالنسبة لمن يترأسها في الوقت الراهن بالتأكيد.