التفاتة إنسانية نادرة، تلك التي شمل بها الملك محمد السادس، الزعيم الوطني الأستاذ عبد الرحمن اليوسفي، بما حملته من طابع المفاجأة السارة ذات الدلالات السياسية العميقة.
وحينما شاهد المغاربة الوزراء الأولين ورؤساء البرلمان يهنئون جلالة الملك بعيد العرش؛ تساءلوا عن المعاني والدلالات التي يرمز إليها هذا السلوك الحضاري غير المسبوق، وماذا سيتبعه من قرارات مماثلة؟
جرت العادة أن تسلم وتبارك لجلالة الملك في الأعياد الدينية والوطنية، الشخصيات التي تقلدت مسؤوليات بالصفة الفردية، وليس كمجموعة منتظمة ينادى على أي اسم فيها بمفرده.
لم تستثن الدعوة الملكية أيا من رؤساء الحكومات والبرلمان بغرفتيه، ماعدا من رحلوا. لم يعتذر من الأحياء سوى الوزيرين الأولين: احمد العراقي وعباس الفاسي. صحتهما حالت دون حضورهما.
على ماذا يؤشر إطلاق اسم معارض يساري، قضى سنوات في الغربة،على فوج المتخرجين من مدارس التكوين العسكري في حفل بهيج أقيم بكامل الطقوس ووفق التقاليد المرعية منذ عقود، في مناسبة عيد العرش؟
يتمثل المعنى أساسا في مغزى الرسالة الملكية الموجهة لشباب انهوا تكوينهم،على أهبة الاستعداد لاستلام مهامهم ضمن أسرة القوات المسلحة، الدرع الواقي للوطن ورمز وحدة وسلامة ترابه.
وكأن جلالة الملك القائد الأعلى للقوات المسلحة، يخاطب أفواج الخريجين: أنتم هنا تتسلمون فرحين، شهادات نجاحكم؛ فلا تنسوا أن الوطنيين الذين سبقوكم أمثال عبد الرحمن اليوسفي، ضحوا في وقت عصيب بحياتهم من أجل أن تعيشوا أنتم هذه اللحظة المشرقة.
امتد العمر باليوسفي، احد رموز المقاومة وجيش التحرير، ليعيش في منتصف عقده التاسع (أمد الله في عمره) لحظة طافحة بالسعادة. حظي بتكريم وتشريف استثنائي، ومن خلاله، رفاقه في أسرة المقاومة وجيش التحرير التي تعد القوات المسلحة الملكية امتدادا لها وتجسيدا عصريا لروح الوطنية المغربية الأصيلة.
نال اليوسفي، أشكالا من الرضا والتقدير؛ أسبغها عليه الملك محمد السادس، في أكثر من مناسبة، بعد اعتزاله الحياة السياسية (قيمة الرجال الأفذاذ تبرز حينما يكونون مجردين من النفوذ).
الوطن مدين له، فهو الفاعل السياسي الذي سهل عملية الانتقال الديمقراطي كزعيم لأكبر حزب يساري في المغرب ومناضل ذي مسار مشرف. كان ركيزة من ركائز عملية انتقال الملك بسلاسة من الملك الراحل الحسن الثاني، إلى خليفته.
والحقيقة أن الحدث الأخير، لم يكن المرة الأولى التي يشمل فيها جلالة الملك وزيره الأول، بالعطف والتقدير، سائرا بهذا الخلق الكريم على خطى والده، الذي هداه الله، كما قال في خطابه البرلمان وهو يعلن اسم من سيفتح معه صفحة المصالحة مع المعارضة.
اليوسفي، كان المرشح الأنسب عام 1998 حسب تقييم الملك الراحل. توفرت فيه شروط الاضطلاع بالمهمة: مقبول ومعروف في الخارج، ومقبول من لدن الأطياف الحزبية والحقوقية في الداخل. قادر على مرافقة الملك للعبور بالبلاد إلى ضفة الديمقراطية، بهدوء وتدرج وعقلانية وتنازل توافقي من الجانبين.
أكيد أن الملك محمد السادس، وكان الأقرب إلى والده، تابع عن كثب ترتيبات تكليف اليوسفي بالمهام الجديدة. حضر لقاءات المكاشفة المؤثرة بين والده واليوسفي. أدرك حينئذ عمق ومغزى وأبعاد ما خطط له الملك الحسن الثاني؛ لذلك أبقى الخلف اليوسفي في منصبه بعد رحيل الوالد، بل أتاح له ظهورا ودورا غير مسبوق في مراسيم البيعة وانتقال الملك بسلاسة.
عبر الملك الراحل، بشكل صادق عن إكباره لليوسفي في كثير من المناسبات، أبرزها حين أصيب اليوسفي بعارض صحي. تجشم الملك عناء زيارته في المستشفى، مقدرا فيه رفضه العلاج في الخارج، بينما لم تكن سهلة العملية الدقيقة التي أجريت له في الرأس.
تلك المعايدة أثبتت للمغاربة أن الملك لم يناد على شيخ المعارضين، كديكور سياسي، بل للإسهام الفعلي في تحمل الأعباء. كانت رسالة واضحة لمن يعنيهم الأمر في الداخل والخارج.
اعتبرت لحظة المعايدة، إيذانا بمرحلة صفاء وود تام وثقة متبادلة بين الملك والمعارض العائد من المنفى.
ومن جهته لم ينس اليوسفي عناية الملك الراحل بشخصه؛ وكثيرا ما عبر عن مشاعر الامتنان للملك الذي ساورته مخاوف من تداعيات الحادث الذي تعرض له أثناء اجتماع حزبي بالرباط.
ولا جدال في أن الملك محمد السادس، اكتشف من جهته، في اليوسفي سجايا ومناقب مميزة لسجله الوطني والنضالي الحافل،على الرغم مما ما شابه من انعراجات وأزمات؛ لكن السياسي المعتدل، برهن في الظروف الحرجة والمواقف المفصلية أن مصلحة الوطن يجب أن تسبق كافة الاعتبارات السياسية والإيديولوجية.
وبالمقابل، ذلل الملك الراحل لليوسفي ابرز الصعوبات تاركا له حرية اختيار فريقه إلى حد كبير، يقينا منه أن الوزير الأول يدرك خصوصية وأعطاب المشهد الحزبي في البلاد، شاعرا أنه سيقود فريقا حكوميا متباينا في والتوجهات والولاءات؛ لذلك أعطاه الوقت الكافي ليتمكن في النهاية من تشكيل منتخب اجتمع فيه ما تفرق في غيره.
أعجب اليوسفي أن يكون أول رئيس لـ “حكومة التناوب التوافقي” وسحرته التسمية السحرية فتلطفت الأجواء السياسية وشاعت روح التفاؤل بين مكونات فريق عمل كثير العدد. تحرك قطار التناوب بسرعة متدرجة ليصل مع الملك محمد السادس، إلى المحطة المقررة..
لم يعرف المغرب حكومة، حظي فيها رئيسها بمثل الاحترام الذي حظي به اليوسفي. فهم الفرقاء الحزبيون أنهم ملزمون بواجب تسهيل المهمة، إنقاذا للبلاد من خطر السكتة القلبية. كانت تلك إرادة العاهل الراحل وثبتها بعده الملك محمد السادس.
إن التكريم الأخير، وهو اعتراف بخدمات رجل دولة نزيه، هو رسالة واضحة مفادها أن الدولة، ممثلة في أسمى رموزها، لا تنسى المخلصين من أبنائها. إنه رهان دائم على أحسن ما في الفاعلين السياسيين من أخلاق النزاهة والتفاني، إعلاء لمصلحة الوطن.