ليس هناك من شك في أن عودة الملك الراحل محمد الخامس من منفاه القسري إلى أرض الوطن، لحظة مفصلية في تاريخ المغرب الحديث. فقد كانت إيذانا بتولي عهد الحجر الفرنسي على المغرب باسم حماية معلنة، لكنها استعمار حقيقي مورست فيه كل أشكال القمع والاستعباد في حق الشعب المغربي، وتم تتويج ذلك المسلسل بالقرصنة التي تعرض السلطان محمد بن يوسف وأسرته لرفضه الاستجابة لإملاءات المقيم العام الفرنسي وإعلانه الإنخراط اللامشروط في معركة استقلال البلاد في تلاحم استثنائي بين الشعب المغربي والحركة الوطنية.
وبما أن نفي المغفور له محمد الخامس كان ذروة في ذرى المواجهة بين الملك وسلطات الحماية، الأمر الذي فجر ثورة الملك والشعب في وجه الاحتلال، فإن اضطرار هذا الأخير إلى التراجع عن مشروعه القاضي بتتويج شخص غير شرعي ملكا على البلاد وإعادة السلطان الشرعي إلى العرش كان هو أيضا ذروة متقدمة في نضال الشعب المغربي في سبيل استعادة سيادته الوطنية وإطلاق عملية بناء المغرب المستقل في مختلف المجالات.
وكيفما كان تقويم هذا أو ذاك لمرحلة الإستقلال السياسي بنضالاتها وصراعاتها، بإنجازاتها وإخفاقاتها، فلا أحد يمكن له أن ينفي أن عودة محمد الخامس ونيل الاستقلال السياسي كانت إنجازًا نوعيًا في مسيرة الشعب المغربي الحديثة.
فهل يكفي الإحتفاء بالذكرى عبر تمجيدها وتدبيج مطالعات سياسية في إبراز محددات سياقاتها وأبعادها بالنسبة لجيل الاستقلال، أم المطلوب هو استخلاص عبرها ودروسها لتحقيق نقلة نوعية في ممارساتنا السياسية ذات البعد الوطني الإستراتيجي؟
يبدو لي أن ما هو مطلوب، فعلا، هو وضع اليد على نقاط قوة تلك الذكرى، وهي كثيرة بالمعنى التاريخي والسياسي، غير أن أهمها على الإطلاق:
أولا، الوحدة بين الملكية والحركة الوطنية والشعب، وهي العامل الجوهري الذي كلما توفر، في مسعى من المساعي، كلما كان القاعدة الصلبة لمقاومة مناورات ومؤامرات الخصوم والأعداء. وقد كان لتوفره الدور الأساسي في مختلف المراحل التي عرفها نضال الشعب المغربي من أجل الإستقلال واستكمال وحدته الترابية وحمايتها من أطماع قوى الهيمنة والتوسع في مختلف تعبيراتها وآخرها نزعة الانفصال في أقاليمنا الجنوبية التي تغذيها تلك القوى بكل الوسائل.
ثانيا، التحرك على أرضية توافقية واضحة المعالم والأهداف والوسائل خاصة خلال المراحل المحورية من عملنا الوطني والديمقراطي، حيث تشكل هذه الأرضية خلفية ممارسة مختلف القوى الفاعلة على الساحة الوطنية، بغض النظر عن الخلافات الممكنة بين تلك القوى، على مستوى فكرها النظري أو تقديرها السياسي الخاص لمصالحها الفئوية والحزبية. وهو ما يتم ترجمته على مستوى التصور السياسي بضرورة مراعاة المصالح العليا للبلاد، على اعتبار أن تحقيق تلك المصالح هو الضمانة الحقيقية لتحقيق المصالح الخاصة لكل تلك القوى وليس العكس.
ثالثًا، تجزئة المشاكل وترتيب التناقضات للتمييز فيها بين ما هو ثانوي وما هو أساسي. وهذا مبدأ حيوي في كل تصور عصري للممارسة السياسية، لأن الخلط عندما يسود خريطة المشاكل والتناقضات يؤدي، حتما، إلى ارتباك في الممارسة يمنع تحقيق أي هدف حقيقي مهما كان بسيطًا. وهذا ما تمت معاينته في مختلف مراحل الحياة السياسية والوطنية حيث ساعد وضوح الرؤية إلى مشكلات المرحلة وتناقضاتها على ربح رهاناتها، انطلاقا من تركيز الجهود على معالجة التناقضات الرئيسية وعدم الانزلاق إلى قلب الأولويات. وإذا كانت معركة الاستقلال قد قدمت نموذجًا لهذا الوضوح، من خلال إعطاء الأولوية لحسم التناقض الرئيسي مع المستعمر، فإن معركة الوحدة الترابية في قضية الصحراء المغربية كانت استئنافا مبدعا لذلك الوضوح، خاصة أن قوى التوسع والهيمنة الإقليمية كانت قد تدخلت من أجل تعتيم الرؤية وتحويل الأنظار عن طبيعة قضية الوحدة الوطنية والتربية للشعب المغربي من خلال التلويح بأطروحة الانفصال التي ليست غير أطروحة المستعمر الإسباني لإنشاء كيان قزمي في المنطقة على حساب الشعب المغربي ونضالاته التي لم تتوقف يوما وبأشكال مختلفة من أجل استعادة استقلاله ووحدته الترابية والوطنية.
رابعًا، استحضار مجمل معطيات الواقع الملموس الذي تجري فيه الممارسة على المستويات المحلية والإقليمية والدولية.
وليس هناك من شك أن هذا الاستحضار هو الذي مكن مختلف مكونات الحركة الوطنية المغربية من توجيه بوصلة النضال الوطني نحو تحقيق الاستقلال منذ مطلع أربعينيات القرن الماضي، حيث تمت الاستفادة من التغيرات المرافقة للحرب العالمية الثانية وبداية مراحل التحرر الوطني من ربقة الاستعمار المباشر في مختلف قارات العالم.
وقد تحكم هذا التصور كذلك في توقيت رفع وتيرة العمل الوطني من أجل استكمال الوحدة الترابية حيث تم اعتبار مرحلة نهاية حكم فرانكو في اسبانيا المرحلة الملائمة لرفع وتيرة نضالنا الوطني وتنظيم المسيرة الخضراء لاستعادة الأقاليم الجنوبية بعد صدور الرأي الاستشاري لمحكمة لاهاي حول طبيعة العلاقات التي كانت تربط بين تلك الأقاليم وبين سلاطين المغرب، قبل وإبان احتلال اسبانيا لتلك المناطق.
وليس يغير من هذا الواقع استمرار افتعال نزاع إقليمي حول أقاليم الجنوبية من قبل قيادات الجزائر التي تبنت أطروحة الانفصال وغذتها بكل الوسائل في مختلف المراحل، ذلك أن تطورات هذا الملف، على المستوى الإقليمي والدولي، قد أكدت، بما لا يدع مجالا للشك، أن مآل الانفصال هو الاندحار النهائي خاصة بعد تبني مجلس الأمن الدولي لفكرة الحل السياسي المتفاوض عليه وتقديم المغرب لمبادرة الحكم الذاتي في إطار السيادة الوطنية وتنامي عدد الدول والأنظمة التي طلقت أطروحة الإنفصال لفائدة مبادرة الحكم الذاتي أو للتأكيد الصريح والواضح على وحدة التراب الوطني المغربي.
خامسا، طول النفس النضالي وقوة الإرادة السياسية في مواجهة تقلبات المواقف ورفع التحديات.
وبطبيعة الحال، فإن طول نفس هذا النضال، الذي يعود الفضل فيه إلى مختلف العوامل السابقة، هو الذي أمن قدرة المغرب على تكييف سياساته في مواجهة الاستعمار المزدوج الذي خضعت له أراضيه في الشمال والجنوب علاوة على الوضع الدولي لطنجة والوصول إلى إعلان استقلاله السياسي على مراحل، بفعل تعقيدات تلك المواجهة. وهو الذي مكن البلاد أيضا من مواجهة شروط توقيع اتفاقية مدريد بين اسبانيا والمغرب وموريتانيا في خضم المسيرة الخضراء، من جهة، ومواجهة تطورات الموقف في موريتانيا بشكل حاسم باسترجاع إقليم وادي الذهب بعد ذلك من جهة أخرى.
ويبدو أن اعتماد تلك الدروس في معارك بناء مجتمع الحداثة والديمقراطية ودولة الحق والعدالة الإجتماعية هو السبيل الكفيل بتحقيق أهداف المرحلة الراهنة بما يخدم مصالح مغرب المستقبل الديمقراطي المتقدم .