يمكن النظر إلى وباء كورونا المستجد من عدة زوايا اخترت منها تأثير الأزمة الصحة على الوضعية الاعتبارية للقانون على المستوى العملي وليس على مستوى النظر فحسب.
يقال عادة: القانون يعلو ولا يعلى عليه للدلالة على سمو مكانته وضرورة خضوع جميع أفراد المجتمع لأحكامه، تحقيقًا للإنصاف والعدل بين الناس وحفاظًا على كيان الجماعة ومصلحة أفرادها دون استثناء علاوة على اعتماده في فض النزاعات المختلفة التي تدخل في نطاق بنوده ووفق مساطر يحددها هو بنفسه.
غير أن هذا القول لم يحل دون رؤية القانون يخرق بشكل منهجي سافر ومقصود حينًا، وبشكل عرضي وغير مقصود وبشكل حينا آخر، ولكل حالة من حالات الخرق تلك دلالة وحكم بموجب القانون إياه سواء تم تفعيله أم لا، لسبب أو ظرف أو غيره من الأسباب والظروف. وهذا ما تدل عليه المخالفات والجنح والجنايات والجرائم بمختلف أشكالها التي تعرض بشكل يومي على المحاكم المختصة. بل إن لخرق القانون من قبل القيمين على تفعيل إجراءاته صفة هي الشطط في استعمال السلطة وهو ما يعني أن رجل السلطة ليس فوق القانون لمجرد كونه مؤتمنًا على تطبيقه بل يسري عليه أسوة بغيره من المواطنين. ولأن كل خرق للقانون أمر مذموم في حد ذاته، فقد يجر على من أتاه إجراءات زجرية وجزائية كثيرة وفق كل حالة بعينها.
إن التأمل اليوم، وبشكل سريع، في قرار الدولة المتعلق بفرض الحجر الصحي في مختلف أنحاء البلاد وما رافقه وتلاه من إجراءات مصاحبة، يجعل المرء يقف عند حقيقة عامة وهي أنه لأول مرة استعاد القانون هيبته على أوسع نطاق كما تدل على ذلك الاستجابة الملموسة والتعامل الإيجابي مع تلك الإجراءات وهي الهيبة التي كاد أن يفقدها في كثير من الأوساط المغربية جراء إشاعة أجواء من التشكيك شبه التلقائي في القوانين إلى درجة التجرؤ على أحكام القضاء في عدد من الحالات على خلفيات لا تمت إلى القانون بأي صلة تذكر، وإنما هي بنت مواقف سياسية مسبقة من مؤسسة القضاء، جوهرها التبخيس والتشجيع على تنمية انعدام الثقة فيها على قاعدة تصورات إيديولوجية سياسية أبعد ما تكون عن العدالة وضروراتها، لالتصاقها بالسعي نحو امتلاك السلطة والهيمنة، بالتالي، على مؤسسة القضاء وليس للدفاع عن استقلاليتها كما يزعم البعض، لتبرير خطاب الذم الذي يدبجه في حق المؤسسة.
غير أن هذا الوباء قد أبان أن الجميع، بمن في ذلك المستهترين بالقانون، قد أصبحوا أكثر إدراكًا أن لاستهتارهم كلفة باهظة، قد لا يكونون قادرين على تحملها على المستويات الأخلاقية والمادية والسياسية في آن واحد.
فمن يزعم امتلاك اليوم القدرة على النوم بهدوء وعلى راحة بال، وهو السبب بهذا الشكل أو ذاك في نشر أذى الوباء في الناس، جراء استهتاره بالإجراءات القانونية الاحترازية التي سنتها الدولة في مواجهة هذه الجائحة ذات الطابع العالمي؟ ومن ذا الذي يستطيع التعايش مع امتهان الاصطدام بالقانون في مناخ تمكن فيه هذا الأخير من استعادة موقع الصدارة، لا من حيث قدرته على الزجر والردع من خلال العقوبات التي ينزلها بالمخالفين فحسب، وإنما أساسًا من حيث قدرته على تمثل المصلحة العامة التي كانت تصوراتها المتباينة سببًا في الإزراء بالقانون واللجوء إلى حضن الإيديولوجيات المختلفة دفاعًا وحماية لتلك التصورات؟
إن القانون هو اليوم، كما ينبغي أن يكون على الدوام، تعبير عن أرضية مشتركة للتعايش بين مختلف مكونات المجتمع بأفرادها وجماعاتها، وحدوده هي، بالتالي، ما يميز بين الانتماء إلى الجماعة السياسية أو ما يعني غير هذا الانتماء.
وبطبيعة الحال، فإن لكل موقف هنا تبعاته المحققة على الفرد والجماعة انطلاقًا من الموقع الذي يتم اختياره خاصة في ظروف استثنائية بكل المقاييس مثل ما نعيشه مع جائحة فيروس كورونا المستجد.
هل هو انقلاب في موازين القوة بين القانون وما يمثله في المجتمع، وبين القوى النابذة الرامية إلى وضعه بمختلف مقتضياته على الرف انتصارا للفوضى العارمة؟ ليس يبدو لي ذلك على كل حال، لأن في الأمر عودة إلى الأصل تحت إكراهات بينت أن الاستهتار بالقانون وما يمثله من إرادة عامة هو مهلكة محققة. لذلك آن للقانون أن يفرض سيادته المطلقة في مختلف فضاءات المجتمع بغض النظر عن التباين الذي يميز بين تلك الفضاءات والتي لا مناص للقانون من أخذها بعين الاعتبار، بغية ملاءمة نصوصه مع ما يستدعيه إحلال القانون فوق كل الاعتبارات هنا أيضًا.
وقد يكون هذا الوضع حسنة من حسنات هذا الوباء وقى الله الجميع من شره الزاحف.