ليس ممكنا لمن يتابع الخطاب الرسمي للسلطات الجزائرية، حول الانتخابات الرئاسية الأخيرة، إلا يقف مشدوها أمام المفردات التي دبج بها ذلك الخطاب، وخاصة لجهة سورياليته وانفصامه عن معطيات الواقع الفعلي لجزائر اليوم.
يوحي الخطاب الرسمي بأن الشعب الجزائري قد اتخذ قراره النهائي لفائدة انتخاب رئيس جديد خلفًا للرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة الذي ساهمت انتفاضة الشعب الجزائري فيفرض تنحيه عن السلطة بعدما فشلت كل محاولات إبقائه على قمة هرم الحكم لسنوات إضافية وهو العاجز عن الاضطلاع بمهام الرئاسة بفعل المرض الذي كان حديث الخاص والعام في الجزائر خلال ولايته الرابعة برمتها. لكن هذا الخطاب يتجاهل تماما من جهة أخرى أن قوى الانتفاضة التي يعزى إليها دفع بوتفليقة إلى الاستقالة قد أعلنت رفضها الواضح والمتواصل لاستمرار النظام عبر عدد من رموزه، ومن بينهم الرئيس المنتخب عبد المجيد تبون ومن كان وراء دفعه إلى الواجهة،(قائد صالح)، تحت مزاعم استقلالية الرجل عن مجمل الأحزاب السياسية تماما، كما زعم رئيس الأركان الحاكم الفعلي للجزائر ان الجيش لم يقم إلا بواجبه الوطني كمؤسسة دستورية تسهر على حسن سير مختلف المؤسسات. لكن من يجرؤ على الكلام؟
ليس الداعي إلى هذا السؤال كون العملية الانتخابية الجزائرية مرت في ظروف مثالية، على المستويات الإجرائية والديمقراطية، إذ لو كان الزعم كذلك، لكان مدعاة للسخرية والتندر في كل الأوساط القادرة على متابعة ما جرى في الانتخابات الرئاسية، وكيف تم التحضير لها من قبل رئيس أركان الجيش الجزائري، ترشيحًا وإجراءات زجرية وقضائية.
فكل العملية كانت محكمة الإعداد، ومنغلقة على الآفاق على اعتبار أن المرشحين، جميعهم، كانوا يسبحون بحمد قرارات رئيس الأركان دون أن يرف لهم جفن وهم يرون أن أصدقاءهم وأولياء نعمتهم القدامى يزج بهم في السجون وتصدر فيحقهم عقوبات حبسية كان صعبا حتى تخيلها قبل انقلاب الأوضاع في الجزائر خصوصًا بعد تنصيب قايد صالح لنفسه الآمر الناهي في البلاد سياسيا وعسكريا واقتصاديا وأمنًا دون منازع.
لقد اختير عبد المجيد تبون ليتولى رئاسة البلاد باسم العسكر قبل عرض الأمر على الشعب في استفتاء مزيف قاطعته جل قوى الحراك الشعبي التي لم تخف قط رفضها لعملية الانقلاب الجديدة التي قادها رئيس الأركان ضد حلفائه إلى الأمس القريب، والذين تحولوا، بقدرة قادر، إلى مجرد عصابة ينبغي تصفيتها بكل الوسائل التي تملكها المؤسسة العسكرية أو بالأصح رئيسها الذي لا يبدو أن بإمكان أي كان أن يتوجه إليه بالنقد دون أن يجد طريقه إلى المساءلة القضائية التي تفضي مباشرة إلى السجن. وللحقيقة والتاريخ فإن رئيس أركان الجيش يفعل ما يقول في مجال التهديد والوعيد بشكل لايقبل الشك.
في ظل هذا الواقع من يجرؤ من المرشحين الأرانب أن يتكلم في شؤون الانتخابات الرئاسية هذا العام؟
إن الذي يستمع لتصريحات المرشحين الأرانب أمام عبد المجيد تبون المستقل! يا للمفارقة! تتملكه الدهشة على وداعة السادة السياسيين الذين كانوا يطمحون، كما هو مفترض، لممارسة الحكم في البلاد.
فلا أحد ينازع عبد المجيد تبون في فوزه الساحق، كما قيل، ولا أحد لديه مجرد ملاحظة سلبية على الكيفية التي جرت بها الإنتخابات الرئاسية.
إذعان عام غير مألوف في الجزائر خلال السنوات الأخيرة. إذ كان هناك هامش ما لنقد السلطة والإدلاء بالملاحظات حول سير العمليات الانتخابية الرئاسية. ومن لا يتذكر الصخب الذي رافق كل الانتخابات الرئاسية خاصة بعد الولاية الأولى لعبد العزيز بوتفليقة؟ من لا يتذكر الطعون الصاخبة التي تقدم السيد علي بنفليس الذي أعلن نفسه الفائز في الانتخابات خلال تحضير الولاية الثانية لبوتفليقة؟
إنه هو الذي يعلن اليوم إذعانه أمام النتائج المعلنة لفوز عبد المجيد تبون.
فما الذي تغير يا ترى؟ هل قفزت الجزائر، دفعة واحدة، إلى جنة الديمقراطية التي بزت مثيلاتها في العالم الغربي؟ هل هناك خطوط حمراء ضمنية أو محددة تم القبول بها، قبل القبول بالرجل مرشحًا لهذه الانتخابات، درءا لتحريك ملفات الفساد في وجهه وهو أدرى بطبيعة عدد من تلك الملفات التي حوكم بموجبها من كانوا يدعمون ترشيحه في وجه بوتفليقة.
فمما لا شك فيه أن الرجل يتذكر جيدًا ملف مومن خليفة الشهير ومضاعفاته القانونية والحبسية.
وفوق كل هذا وذاك هل تبخرت الانتفاضة بين عشية وضحاها ولم يعد لها وجود على الأرض؟ سؤال استنكاري بطبيعة الحال إلا أن الغرض من طرحه التأكيد على سوريالية الانتخابات الرئاسية الجزائرية الأخيرة.