أسدلت الانتخابات الرئاسية التونسية في دورها الثاني والأخير ستارها، معلنة عن فوز مرشح حزب نداء تونس (الحداثي) الباجي قائد السبسي بكرسي قرطاج، بما يعنيه ذلك من انتهاء مرحلة الانتقال الديمقراطي التي عاشتها البلاد منذ انتفاضة 2011، والمرور إلى فترة المؤسسات وهياكل الحكم الدائمة.
نتيجة وإن كانت متوقّعة لدى أغلب المراقبين، وبدت عاكسة من حيث التفاصيل، لما أعلنت عنه الانتخابات التّشريعية التي فاز بها حزب نداء تونس، وكذلك الدّور الأول من الرئاسية الّذي فاز فيه السبسي بالنسبة الأكبر من الأصوات، إلاّ أنّها حملت معها دلالات عدّة يتلخص أهمّها عُموما في أنّ “تونس هي الّتي انتصرت” بالفعل، رغم التّحديات الّتي مازالت مطرُوحة، وهي الّتي توّجت مسارها السلميّ الذي اختارت المضي على هديه، لتصنع الفارق وتكون الاستثناء في “ربيع عربي” جلب الفوضى والدمار لشعوب تاقت للكرامة والحرية فانتفضت ذات غيظٍ لتدكّ صروح حكامها الذين تسلّطوا فأُسقطت نُظُمُهم.
وبالمراوحة بين “الانتصار الحقيقي” الذي توّج المسار التُونسي، و”الانتصار المُكابر” الذي رفعه محمد المنصف المرزوقي المرشح الرئاسي الذي حالت إرادة أغلب التونسيين دونه ودون مواصلة الحُكم، شأن ما فعلت قبله بحلفائه الإسلاميين (ممثلين في حركة النهضة المحسوبة على جماعة الإخوان)، الذين أرادوا الحافظ عليه في قصر قرطاج، كونه أضحى يمثل لهم وللتنظيم الإخواني الدولي من ورائهم، طوق النّجاة الأخير، بعد أن لفظتهم إرادة ونفوس شعوب المنطقة من خليجها إلى محيطها، تَكمنُ المُفارقة.
مفارقةُ، أساسها ألاّ أحد تقريبا تفطّن إلى شعار حملة المرزوقي الذي تبدّل بين ليلة وضحاها من “ننتصر أو ننتصر” (في الدور الأوّل) إلى “تونس تنتصر” (في الدور الثاني).
تغيير يحمل من دلالات اللغة ما ينبئ بتكاثف “الأنا” وطغيانها على صاحبها ومن هم حوله، لتصبح البلاد بمن فيها ومن عليها ملخّصة فيه، وما “انتصار كبريائه” سوى “انتصار” لها. كما يُحيل، بلغة السياسة، إلى أنّ المرزوقي ربّما تفطّن (أو أعلموه) أنّ الشعار الذي اختاره لحملته الأولى (سهوا أو عن قصد) إنّما هو شعار غباغبو، الذي رفض تسليم الحُكم لنظيره الحسن واتارا ذات انتخابات حرة وشفافة فاز بها الثاني في جمهورية ساحل العاج الأفريقية، ممّا دعا السلطات الأمنية إلى تنحيته بالقوة واعتقاله شبه “عارٍ” في القصر الرئاسي، في فضيحة سِيقت عبرةً لكل من يمكن أن تخوُّل له نفسه التعنت أمام إرادة الشعوب وقوانين اللعبة الديمقراطية.
تشابهٌ في الشعارات، بدا في نظر عدد من المراقبين مقصودا منذ البداية، خاصة لمّا عَمد المرزوقي أثناء إشرافه على حملته الانتخابية إلى استعمال عبارات ضدّ منافسيه (شأن عبارة الطّاغوت الّتي يُطلقها الجهاديّون المتطرفون على قوات الأمن) من شأنها تأجيج الوضع وتهديد السلم الاجتماعي والانزياح بالمسار الديمقراطي ككلّ إلى مطبّات العنف والفوضى، وفق رأيهم، ولمّا عمد كذلك إلى التشكيك في نتائج الدور الرئاسي الأوّل (دون موجب واقعي) وتقديمه لثمانية طعون في الغرض رفضتها المحكمة الإدارية المعنية بالبتّ في هذه المسائل، بالجملة.
ولعلّ تداعيات المشهد الذي كادت تؤدي إليه تلك التصريحات المتشنجة من جهة، والتحذيرات التي نبّهت من هنا ومن هناك إلى مغبّة اللعب خارج النواميس الديمقراطية التي تقوم أساسا على مبدأ السلمية ولا شيء غيرها من جهة أخرى، أو علّها صور غباغبو “المُهينة”، كذلك، الّتي مازالت متداولة على صفحات التواصل الاجتماعي؛ هي التي دفعت المرزوقي (خشية لذات المصير المهين) إلى تغيير شعار حملته، إلى “تونس تنتصر”.
وقد انتصرت تونس بالفعل بتتويجها لمسارها.انتصرت تونس التي أرادها مواطنُوها حداثيّة بعيدة عن إملاءات الإخوان ومن تعلّق بجلابيبهم. تونس التي أعلنت إرادة غالبية ناخبيها أنّها ليست تلك التي يلخصها المرزوقي في ذاته وإرادته الشخصية، بل هي تلك التي لطالما انجلى اللّيلُ من أمامهَا، كلّما أراد شعبُهَا الحَيَاةَ.
الثابت اليوم، بعد أن قال التونسيون كلمتهم ووهبوا ثقتهم للباجي قائد السبسي رئيس جمهوريتهم للسنوات الخمس المقبلة، هو أنّها جولة أولى في مسار تونسي شابته العديد من النقائص واعترضته مطبّات ومنزلقات حادّة مرّت بسلام بـ”انتصار تونس”، غير أنها ليست الأخيرة في ظلّ تزايد التحديات الأمنية، خاصة مع تنامي الخطر الإرهابي المحدق، وارتفاع سقف الأزمة الاقتصادية والتنموية التي تعانيها البلاد، والتي يبدو أنّ معالجتها ستتطلّب حزمة من الإجراءات التقشفية والـ”لاشعبية” التي ستنهك التونسيين على المدى المتوسط، وفق خبراء، لكنها على ما يبدو ضريبة لا بدّ منها لإعادة الاستقرار وتحقيق بعض الرفاه المنشود على المدى البعيد.
*كاتب صحفي/”العرب”