يحتفل المغاربة نهاية الشهر الجاري (يوليو) على غرار كل عام، بمرور عقدين كاملين على تولي جلالة الملك محمد السادس، مقاليد الحكم.
عشرون سنة مضت متسارعة، حافلة بأعمال ومنجزات كبرى خطط لها واشرف على تنفيذها، بالتتبع والسهر عليها،عاهل البلاد، دون كلل أو تساهل مع المقصرين في التنفيذ؛ رغم جسامة المسؤوليات والالتزامات الأخرى الملقاة على عاتق جلالته.
وبطبيعة الحال، يصعب في كلمة، هي أساسا للذكرى والتذكر،القيام بجرد كمي وتقييم المشاريع والأوراش الكبرى والتأمل في أبعاد وانعكاسات المخططات التنموية التي غيرت إلى حد كبير، وبكل موضوعية، صورة المغرب على كافة الأصعدة، فهي من الكثرة بمكان. استفادت منها بدرجات متفاوتة، جهات المملكة، تبعا للأسبقيات، في افق تحقيق عدالة مجالية قدر الإمكان..
وتبعا لهذه الدينامية التي استمرت بذات الوتيرة عقدين من الزمن، يمكن القول إن الأجندة الملكية التنموية زاخرة بالمشاريع المهيكلة؛ بعضها تخطى مرحلة الدراسة والاختبار، والبعض الأخر يحتمل الإعلان عن تفاصيله في أية لحظة،ما دامت ماكينة الاشتغال لم تتوقف عن الدوران.
هذا ما جعل الكثير من الملاحظين والمحللين يضفون، تعبيرا عن إعجابهم بجلالة الملك،صفة “رجل الأفعال” قبل الأقوال.
الأفعال المجسدة في الأوراش الموصولة الواحد تلو الأخر، بإيقاع ضاغط، استجابة لأسئلة المغاربة وانتظاراتهم، في إطارمن وضوح الرؤيا وإصرا راسخ على كسر التحديات.
أما “الأقوال” فإنها على العكس، اتسمت في ظل العهد الجديد، بالتركيز على الأهم والتوجه مباشرة إلى صلب الموضوع.لا مجال في الخطب الملكية للإسهاب والعبارات الفضفاضة وليس بها تفاخر بما تحقق من إنجازات خلال السنوات المنصرمة، مهما عظمت كلفتها وكثرت صعوباتها. إنها اختبار مستمر لإرادة مشتركة يتقاسمها الملك والأمة.
وفي سائر الخطب العرشية،يستشرف جلالة الملك، المستقبل بفكره المستنير. يرسم في خطبه معالم الطريق لولوجه مستشعرا ما يخبئه من تحديات ومفاجآت وسبل التصدي لها،على اعتبار إنه من الجائز أن يكون الوافد سارا أوضارا؛ ليس للمغاربة وحدهم ,وإنما البشرية جمعاء،في عصر سريع التقلبات والتحولات المثيرة.
وتأسيسا على تلك الرؤية الإستراتيجية المؤطرة لجهد وعمل جلالة الملك، فإن حصيلتها في غضون السنوات الماضية جيدة ونافعة بكل المقاييس. إن سجل نقص أو تعثر، فهو خارج عن الإرادة، وقد عود جلالته شعبه على الصراحة والمكاشفة بخصوص النواقص؛ داعيا إلى استنهاض المواطنين بأن يشاركوا كل من موقعه في الجهد الأكبر.ليس عدلا أن تتحمل الأعباء فئة دون أخرى
يقتضي العيش المشترك تقاسم الأدوار بين مكونات المجتمع والفاعلين فيه والمساهمة بأشكال من التضحية، ما من شأنه تحفيز الطاقات الجماعية وتحريك مشاعر الغيرة على الوطن والتفاني في خدمة الصالح العام.إنها ذات القيم المرجعية والأخلاقية المؤسسة للمجتمعات الحديثة التواقة إلى غد أفضل.
وأمام ضخامة تركة الماضي وأخطائه وكثرة الاحتياجات وتعدد مطالب لا يرحم أصحابها،فإن جلالة الملك، ما انفك عن العمل والتنبيه، واضعا المغاربة أمام مسؤولياتهم، ليقطعوا مع روح التواكل والتعويل على الدولة في كل شيء. الأخيرة غير قادرة وحدها، ليس في المغرب فقط على حل كل المعضلات لكنها وبحكم وظيفتها، لا يمكنها الانسحاب.
هذه الروح الجديدة في ثقافة المجتمع، استوجبت بلورتها في نموذج تنموي جديد،بدأت ملامحه وإرهاصاته الأولى في الظهور،في صورة نقاش عمومي تساهم فيه النخب والفاعلون في أفق وثبة تنموية جديدة بصياغة مبتكرة في البلاد.
وربما جاز القول إن عملية تجميع الأفكار والتصورات والمقترحات قد بدأت،منذ أن دعا جلالة الملك الفاعلين إلى الإسهام في اقتراح النموذج التنموي المأمول.أكيد أنه قطع أهم المراحل متجها نحو الاكتمال ليشكل أرضية نقاش وطني.
إن الحصيلة التنموية على صعيد البنيات والتجهيزات الأساسية، تشير في مجموعها إلى أن الدولة المغربية، بتوجيه من جلالة الملك،قد اضطلعت وما زالت بأهم الأدوار الموكولة إليها حسب الإمكانات المادية والبشرية المتاحة، دون الادعاء بأن كامل الفئات المجتمعية والمناطق راضية بحصصها من نصيب التنمية.وهذا نزوع لا ينفرد به المغاربة عن سواهم من الشعوب،وخاصة في فترات اللاطمأنينة والخشية من المستقبل.
في نفس السياق، وانسجاما مع طبيعة المناسبة السعيدة يحضر في الأذهان سؤال بديهي: إذا كان الشق المادي يراكم النتائج و يقترب سنة بعد أخرى،من الاستجابة لمتطلبات المغاربة من التنمية وظروف العيش اللائق؛ فهل يتواكب ذلك مع البناء المؤسساتي ويسير معه بالتوازي وبسرعة متقاربة؟
لا يسمح هذا الحيز بإجابة مفصلة وليس في ذلك أي حرج أو تهرب من السؤال ما دام ملك المغرب قد فتح طريق الوضوح وأشاع في المملكة المغربية ثقافة سياسية جديدة،قوامها الشفافية والحكامة والمساءلة.
إن ما صرح به مستشارا جلالة الملك:عمر عزيمان وعبد اللطيف المنوني، لوكالة فرانس بريس، بكيفية غير مسبوقة، يحمل إجابات كاشفة عن التساؤل.يمكن اختزال الإجابتين في الجملة المتداولة “العمل متواصل في كل الجبهات والكمال لله” غير خاف أن المستشارين لا يعبران عن وجهة نظر شخصية. بعبارة أخرى هو توصيف الملك لما تحقق بكل ما فيه.
ويدرك جلالة الملك أن التعتيم وإخفاء الحقائق لم يعد ممكنا في زمن الانفجار الديمقراطي ونمو الوعي وكذا التطور المسجل في ميدان الحريات العامة الضامنة لحق المواطن في السؤال والمعلومة والتعبير النقدي، بل حتى الترافع أمام القضاء، إذا ما لاحظ خرقا، مهما كان الفاعل.
طبيعي أن لا يتوازا البناءان (الأساسي والمؤسساتي) ولا سيما في مراحل الانتقال الديمقراطي. ولا يسع الملاحظ إلا الإقرار بوجود حركية تسري في أوصال المجتمع المغربي الضاج بالحيوية والاحتجاج، بالوسائل والتعبيرات المشروعة إن على صعيد حراك الأفراد أو ضمن المؤسسات التمثيلية الوسيطة.
ما تحقق في عقدين، رغم الصعوبات والضغوطات الداخلية والخارجية من منجزات في مجال التنمية الشاملة بالمغرب،يدعو إلى الإعجاب والتفاؤل ويزرع الأمل في مستقبل أكثر ازدهارا،عبر الالتفاف حول قائد مسيرة التحديث والتجديد.
هنيئا لجلالة الملك بالذكرى العشرين لتبوأه العرش، وأمد في عمره، نبراسا محفزا على العمل وباعثا للأمل.