بالاحتكام إلى منطق حسابي بسيط، يفترض أن تتجاوز نسبة النجاح في شهادة الباكالوريا المغربية، بعد إجراء الدورة الثانية، نسبة الثمانين في المائة على الأقل، أو تقف عند عتبتها.
وهذا حدث غير مسبوق في تاريخ امتحانات نيل تلك الشهادة بالمغرب، منذ الاستقلال؛ فقد جرت العادة أن تستقر نتائج الدورتين معا فيما بين 50 و60 في المائة في أحسن الأحوال؛ أما وقد جاورت في الدورة الأولى لهذا العام 66 في المائة، فهذا تطور مثير يستدعي وقفة تأمل ومقاربة هادئة.
وقد يكون المغرب منفردا بهذا الرقم المرتفع في عام 2019 بين الدول التي تعتمد نظاما تعليميا عصريا؛ ولكنه بالوقت ذاته مؤشر يخفي حقائق تربوية غامضه أو متناقضة، امتزج فيها المطمئن بالمقلق.
وضع يفرض على الإدارة التربوية مساءلة نفسها قبل أن تطلب من خبرائها إعمال النظر التربوي السديد فيما حدث قصد استخلاص الأسباب والمسببات؛ سواء كانت الوزارة تعتزم مراجعة وإصلاح منظومة التقييم والامتحانات برمتها، كي لا يتكرر،ما يساهم في تناسل الإشاعات والتعليقات الساخرة التي تنشر الحيرة في أوساط الرأي العام المغربي،على اعتبار أن شهادة الباكالوريا هي تتويج لمسار تعليمي أساسي في حياة التلاميذ، يتوجب صيانتها من أية ثغرة تنال من مصداقيتها في الداخل والخارج.
لقد ذهب الشك بالبعض إلى مصداقية الامتحانات، والزعم بأن الوزارة أرادت، من خلال النتائج السخية، امتصاص غضب التلاميذ والأسر، بغاية إلهائهم عن قرارات غامضة تخطط لها،لذلك أهدت لعدد مرتفع من المرشحين ما يؤهلهم لمتابعة الدراسات العليا،أو البحث عن شغل بمستوى الشهادة التي سهروا الليالي من أجل الفوز بها.
تقتضي الغيرة على سمعة الوطن والشهادة ،استبعاد منطق دأب أصحابه على التشكيك التلقائي في كل ما يصدر عن السلطات الرسمية، صوابا كان أم خطأ؛ في التعليم أو غيره؛ علما أنه لم يثبت لجوء الوزارات المتوالية الوصيات على قطاع التعليم، إلى التدخل السافر في نتائج الامتحانات وتكييفها، وخاصة الوطنية النهائية ،إلا بما يوفر إجراءها في ظروف طبيعية وآمنة،ضمانا لمساواة الجميع أمام هذا الاستحقاق التعليمي. نعم ربما يحدث تقصير وإهمال إداري نتيجة تسرب الأسئلة أو خلل تنظيم إداري للامتحانات.
هنا لا يجب إنكار أن الإدارة التربوية تواجه في بعض الأحيان”اكراهات” لها صلة بإعداد الخريطة المدرسية، تضطر معها وبسبب إقبال التلاميذ على شعب دون أخرى،إلى اشتراط معدلات في مواد معينة ،بغاية توزيع عادل للمتعلمين على الشعب التي يريدونها، على ضوء المقاعد المتوفرة.
وليس من السهل دائما أقناع المشككين بأن سلطة الامتحانات موكولة إلى الأطر التعليمية: بدءا من واضعي أسئلة الاختبارات والمفتشين والمصححين وحتى المراقبين والمشرفين على طبع الأسئلة والحراس يوم الامتحان. هؤلاء وحدهم هم المتدخلون، بدرجات، في صنع النتائج. وأي إخلال ثبتت مسؤوليتهم ينبغي محاسبتهم عليه.
ماذا تعني نتائج الدورة الأولى التي سيتأكد قطعا منحاها في الدورة الثانية ؟ هل تعكس اجتهاد التلاميذ أكثر من المعتاد؟ أم تبررها جودة أساليب التلقين والتحفيز وما رافقها من تحديث للبرامج وإعادة أجواء الأمل والثقة في المدرسة المغربية؟ أم أن النتائج التي رحبت بها كل الأسر وأشاعات أجواء فرح عارم بين التلاميذ في كل جهات الوطن؛ تخفي أي النتائج خللا وعيبا في نظام الباكالوريا؟
مهما تكن الأسباب ، فإن أي ملاحظ موضوعي لا يمكن أن يطمئن بسهولة إلى الارتفاع غير العادي المسجل في نسبة نتائج الباكالوريا 2019.
لا مجال للحديث هنا عن الحظ الذي شمل 66 في المائة من المرشحين، ما قد يرفع العدد إلى أكثر من ثمانين في الدورتين؟ الخشية أن يكون سخاء المصححين كبيرا وواضعي الأسئلة أكبر.
بات واجبا على وزارة التربية الوطنية، الإجابة المقنعة وبسرعة على التساؤلات المتداولة بهمس وعلى نطاق واسع بين شرائح كثيرة من الرأي العام، تتقصى تفسيرا لما وقع.
أتكون حدثت على سبيل المثال ثورة تعليمية في مدارس المغرب، ظلت محصورة بين فصول المؤسسات التعليمية، أم تغيرت وتيرة اجتهاد وجدية طرفي العملية أي الأساتذة والمتعلمين، فاتفقا على تحقيق نتائج مبهرة؟
من حق المواطنين الاطلاع على أسباب هذا التحول وما هي العوامل والسياسات التي جعلته ممكنا بعد أن ظل مستبعدا بل غير مقبول لعقود من الزمن؟
ومن مصلحة الجميع أن لا تمر النتائج الجيدة للدورة الأولى، دون تبرير لها؛ ليس بغاية الانتقاص ممن فازوا فيها بل إعمالا للشفافية والحفاظ على مصداقية الشهادة التي استمرت معترفا بها، رغم عثرات السياسات التعليمية.
والأمل كذبك أن يتم تدارس نازلة الباكالوريا، وفق المقاربات التربوية المتعارف عليها وإجراء التحريات والمقارنات، لتجميع خلاصات واستنتاجات في وثيقة مرجعية.
من المناسب في هذا السياق التذكير بنية الوزارة، كما هو الحال في فرنسا، إلى إصلاح نظام الباكالوريا، مواكبة للاتجاهات الحديثة في التعليم، في أفق التخفيف من أعباء التلميذ، بإعادة تنظيم وترتيب المعرفة المدرسية واستعمال قنوات جديدة لنقلها؛ ما من شأنه إبعاد رهاب الامتحان وتأثيره النفسي على المتقدمين، فيتم القطع مع المقولة التقليدية “عند الامتحان يعز المتعلم أو يهان”.
مهما تكن طبيعة التداعيات، فإن الوزارة ستواجه إحراجا في الدورة الثانية.لا يمكنها إضفاء الصعوبة والتعسير على الأسئلة، لأنها موضوعة ومحددة مسبقا مثل أسئلة الدورة الأولى التي أشاعت الفرح بين المجتهدين والمتراخين…