يرفض حزب بوديموس الشريك الأساسي في الائتلاف الحكومي الذي يتزعمه الحزب الاشتراكي العمالي الإسباني؛ أن يتمتع الأخير بقسط يسيرمن الراحة السياسية جراء المتاعب التي تنهال عليه من الشريك المزعج، في كل حين وعلى أكثر من صعيد وواجهة.
ولم يعد الخلاف محصورابين الحزبين داخل قاعة الاجتماعات برئاسة الحكومة في قصر “لامنكلوا”بمدريد،بل خرجت تفاصيله، وبنية مبيتة، وذاعت أسبابه وخلفياته حتى بات مهيمنا على مداولات مجالس الوزراء الأسبوعية أو اجتماعات القطاعات الحكومية.
الأسرارمتاحة في الشارع ،تتلقفها الصحافة المتعطشة لهذا النمط من الأخبار المثيرة وقت الأزمات
يتساءل المحللون الإسبان متى وكيف سينهي الاشتراكيون مضايقات حلفائهم الخارجة عن المألوف ومنطق التحالفات الحكومية في الأنظمة الديمقراطية؟ وأي سبيل سيسلكونه للتخلص من وجع دماغ مستمر.
يزايد الفوضويون على الاشتراكيين ويكيلون لهم تهم التنصل من الاتفاقات التي وقع عليها الحزبان قبل تشكيل حكومة الضرورة توجد حاليا تحت رحمة الأحزاب القومية ذات النزوع الانفصالي؛ إذبتواطؤ هذه الأخيرةيرفع أتباع بوديموس عقيرة ضوضائهم.
يرفض الزعيم ذو السوالف المرسلة، من موقع النائب الثاني لرئيس الحكومة, سماع أي حديث عن تداعيات الجائحة وآثارها السلبية على الاقتصاد ومناحي الحياة العامة في البلاد.
لا يثق ،بابلو إيغليسياس، المعادي للرأسمالية والدولة في منطق الاتحاد الأوروبي الذي يشترط على حكومات البلدان الأعضاء،تدابير تقشفية صعبة أثناء هندسة الميزانيات الوطنية، وذلك لمراعاة التقلبات المالية وما يترتب عنها من ركود وتضخم وخلل في التوازنات.
يصم وزراء بوديموس، أذانهم تجاه إلحاح الاشتراكيين أن الظرف لا يسمح الآن بالتصعيد الاجتماعي وبالتشكيك في المؤسسات الدستورية وفي مقدمتها نظام الملكية البرلمانية.؛ فهم يجاهرون بالقول الصريح: إن الشعب الإسباني ضد الملكية. ويرد الاشتراكيون: هناك فرق بين معارضة فئات مجتمعية وتيارات فكرية،لنظام سياسي في وقت معين ولأسباب غامضة أو معلنة، وبين الالتزام باحترام المؤسسات الدستورية،ضامنة استقرار البلادالتي توافقت عليها مكونات الشعب الإسباني،عبر آلية الاستفتاء.
يمضي الفوضويون في عنادهم،حد السخرية من الاشتراكيين. يعيرونهم بالتنكر لعقيدتهم الجمهورية وهي التي شكلت إحدى ركائز الحزب في فترة الديكتاتورية.
يرد الاشتراكيون على منتقديهم: لا يمكن فرض عقيدتنا على الناس؛متسائلين وما العيب في نظام الملكية البرلمانية؟ بل وما الذي يميزها، في العمق،عن نظام جمهوري لم تعد له ضرورة إطلاقا؟ ولا يمكن أن يحل مشاكل إسبانيا العسيرة. أكثر من ذلك أن الملكية البرلمانية تمنح السلطة للشعب، في شخص رئيس الوزراء، عبر الاقتراع المباشر؛ فماذا ستضيف الجمهورية التي يمكن أن تتحول إلى نظام مستبد.
لم يجن حزب، بوديموس، والموالون له من نقاش مفتعل حول طبيعة النظام القائم، سوى تهييج واستفزاز الشرائح المحافظة في القوات المسلحة، المؤلفة من ضباط متقاعدين برتب عالية. تجرءوا أخيرا وبعثوا رسالتين إلى ملك البلاد، باعتباره القائد الأعلى للقوات المسلحة .اتهموا الحكومة الائتلافية بتعريض البلاد لمخاطر التفكك والانقسام، واضعين أنفسهم رهن إشارة الملك فيليبي السادس، معلنين استعدادهم لإعدام الملايين ، دفاعا عن العرش الإسباني.
لم يول الملك فيلبي، أي اهتمام لرسالة التهديد، ورفض أن تسجل في سجلات البريد الرسمي الوارد على القصر الملكي؛ وإنما أحالها على الحكومة للبت في أمرها، فأسرعت الأخيرة إلى وضعهابين يدي العدالة لتتولى التحقيق في مصدر العريضتين، ومن حررهما والباعث على ذلك وترتيب الجزاء القانوني المناسب. والتحقيق مستمر ببتنسيق بين القضاء والاستخبارات العسكرية والمدنية.
وبموازاة ذلك،أعلن القائد العام للقوات المسلحة،بفروعها البرية والبحرية والجوية، تجديد تأييده للملك والتزام الجيش بحماية الدستور الناظم للحياة السياسية في البلاد، ووقفت نفس الموقف وزيرة الدفاع، رئيسة الحزب الاشتراكي، مارغريتا روبليس ،باسم الحكومة.
ولا يختلف الموقف التحريضي عن ما يجري في الساحة الاجتماعية.يدفع بوديموس، نحو التصعيد في مطالب الزيادة في الحد الأدنى الأجور،ورفع الضرائب على الثروة وأصحابها دون استثناء المؤسسات المالية والصناعية؛ فضلا عن منع قطع الماء والكهرباء عن المحتاجين،دون قيد أو شرط أو إحصاء للحالات المستحقة،بمعنى إسكان من لا سكن لهم في الشقق الفارغة لمدة ستة أشهر على الأقل، ريثما يدبرون أمرهم.
ولا يعارض الاشتراكيون الإجراءات التي تصب في مصلحة الفقراء والمتضررين من الجائحة، لكنهم ينتقدون أسلوب المزايدة والتوقيت والخلط بين المطالب العادلة والزيغ السياسي.يقترحون على شركائهم النقاش الهادئ، والحفاظ على التضامن الحكومي وسرية المداولات وجدولة الإصلاحات ومراعاة قوة المعارضة اليمينية.
هذه الأخيرة،تتسلى وتتفرج على حرب الإخوة الأعداء، تؤجج النار من جهتها، بتوجيه النقد العنيف لرئيس الحكومة الذي أصبح في نظرها،رهينة الفوضويين. لا يظهرون الاستعداد والأريحية بمنح تأييد مشروط للاشتراكيين لتخفيف الضغط عنهم،حتى يواجهوا ابتزاز بوديموس وأتباعهم.
إنها وضعية مأزومة حقا،قابلة للانفجار، يزيد من حدتها أن استطلاعات الرأي الأخيرة تتوقع تراجع “بوديموس” في حال إجراء انتخابات قبل أوانها؛ لذلك تراهم يهربون إلى الأمام،أملين في وقف التيار. يسابقهم شريكهم ممثل اليسار الموحد (الشيوعي السابق) يرفع بدوره راية الاحتجاج بأعلى صوته، ملحا على مطالب تياره.
حتى الآن،لا تتحدث الطبقة السياسية عن الانتخابات، يقينا منها أنها لن تحل مشاكل البلاد المزمنة. سيظل المشهد كما هو حاليا: الحزب الاشتراكي في الطليعة ،بحوالي 30 في المائة ولكن تكتل اليمين سيربح أكثر من الاشتراكيين وبوديموس.إها نفس الوضعية الحالية تقريبا. وفي نفس الوقت تزداد الضربات الفوضوية ضد الملكية، وخاصة بعد اكتشاف فضائح الملك السابق ومطالبة اليسار الراديكالي القومي بمحاكمته.
هل هي نذر الحرب الأهلية التي سبقتها نفس الأجواء عام 1936؟ احتمال بعيد بل مستحيل،لأن إسبانيا محصنة من الخارج أيضا ؛ لكن الأسوأ منه بدا يلح داخليا، في الأفق: تصدع وحدة البلاد والشعب ، وهو الأخطر ؟