كتبه: حسن السوسي
يعتبر الصمود وسط الأعاصير، السياسية أو غيرها، من المواصفات التي ينبغي أن تتوفر في القيادة، في مختلف المجالات. ويمكن اعتبار القدرة على الفعل الواعي والمنظم خلال مواجهة تلك الأعاصير والتغلب على مضاعفاتها من العلامات التي لا تخطيء على القيادة الفعالة والناجحة .
وقد كانت جائحة كورونا بمثابة شكل خاص من هذه العواصف التي تضع على المحك قيادات الدول والشعوب في مختلف المجالات؛ وعلى قاعدة طبيعة تصرفها والنتائج التي يتم التوصل إليها، إيجابًا أو سلبًا، يمكن تحديد التخوم والتعرف على الحدود بين القيادات التي هي في مستوى التحدي وبين تلك التي ظلت دون ذلك، لهذا السبب الذاتي أو الموضوعي أو بسببهما معًا.
وقد كان المغرب رغم إمكانياته الاقتصادية والمالية المتواضعة، في مستوى التحدي، لأن قيادته السياسية قد استطاعت قراءة اتجاهات الجائحة الصحية التي ضربت العالم، بشكل مبكر؛ الأمر الذي لم يتوفر لدول عظمى على مستوى إمكانياتها وقوتها الاقتصادية والسياسية.
وليست مهمة الفرز على مستوى رفع التحديات، هذه الجائحة، عملية سهلة لأنها تتطلب الكثير من الحصافة في الرؤية والجرأة في القرار والمثابرة في الإنجاز ولو كان ذلك نوعًا من الإبحار عكس التيار.
وهذا ما فعله المغرب بالذات خلال جائحة كورونا تحت قيادة الملك محمد السادس الذي لم يتردد في اتخاذ القرا رات الصعبة في ظرف قياسي استرعى انتباه كثير من المراقبين على المستوى الإقليمي والدولي، بمن فيهم من كانوا ينظرون إلى المغرب، بعين من لا يتوقع منه الحسم في القرار والإصرار على مواجهة الجائحة، بسبب شح الإمكانات وضغوط الظرفية الاقتصادية على بلد نام يواجه مضاعفات التغيرات المناخية السلبية وفي مقدمتها الجفاف الذي يؤثر بشكل حاد وملموس على إجمالي دخله الوطني السنوي. فقد كان مثل هؤلاء ينتظرون أن تعصف الجائحة بكل مكتسبات المغرب وتضع مستقبله في مهب الرياح. غير أن الواقع المغربي جاء على عكس ذلك النوع من التوقعات، وفرض على العالم النظر إلى المغرب ومقاربة قيادته السياسية للأزمة الصحية ومضاعفاتها نظرة أخرى وصلت ارى البعض التجسيد الملموس لنموذج يحظى بالتقدير والاحترام.
ولا يعود الأمر، في الواقع، إلى معجزة من المعجزات غير القابلة للتفسير والمقاربة، وإنما يرجع إلى تضافر عوامل القراءة الواضحة لمؤشرات اتجاهات الجائحة والإرادة السياسية القوية في مواجهتها في إطار مقاربة واقعية عقلانية تتميز بالتدبير المتدرج المترابط الحلقات لمختلف مراحل عملية المواجهة.
وهذا ما يمكن استخلاصه بوضوح من خطاب العرش لهذا العام، الذي ليس خطابًا تقليديًا، يتم فيه استحضار إنجازات عام مضى، وتقديم رؤى استشرافية عامة للمستقبل، أو وضع خطط عملية على المدى القريب أو المتوسط ضمن وتائرهما العادية، لأن الشروط العامة التي حلت فيها الذكرى ليست عادية على أي مستوى من مستوياتها، وإنما هي استثنائية بكل المقاييس وضاغطة أشد ما يكون الضغط على واقع المواطن والبلاد، ولها آثارها الأكيدة على المستقبل القريب والبعيد.
فخطاب جلالة الملك بإيجاز شديد، هو خطاب الجرأة في تناول قضايا راهن ومستقبل المغرب في إطار رؤية استراتيجية تربط عضويا بين مواجهة جائحة كورونا، التي أصابت جل مناحي الحياة عندنا، كما في كل بلدان العالم، وبين إعادة الإعتبار للعناوين الأساسية للإصلاح الحداثي الشامل، الذي التزم بإنجازه ملك البلاد منذ تقلده مسؤولية الحكم بعد وفاة والده الملك الرحل الحسن الثاني قبل إحدى وعشرين سنة.
وبطبيعة الحال، فإن استثنائية الظرف الوبائي الطاريء قد استدعت اتخاذ قرارات استثنائية، وأساسًا بمقياس صعوبتها وقسوتها وكونها ليست بنات طيب خاطر ملك البلاد لمضاعفاتها الكبيرة على الحياة اليومية المواطنين، غير أن ضرورتها تعود إلى كونها تصب في مصلحة الوطن حيث تمثل حماية حياة المواطنين الأهم ضمن قائمة الأولويات.
والملاحظ أن الخطاب الملكي كان أشد الحرص على إبراز أن البوصلة التي توجه عمل الدولة ظلت هي ذاتها، في ظرف استثنائي استدعى اتخاذ قرارات وتدابير استثنائية، مما ميز تعاطي القيادة المغربية مع الجائحة، في أجواء من التضامن والتعبئة الوطنيين، وتمكينه من تحقيق عدد من المكتسبات على مستوى محاصرة الجائحة والمحافظة على حياة المواطنين.
وقد حرص الخطاب الملكي على الدفع إلى تحويل تلك المكتسبات، على راهنيتها، إلى نقطة انطلاق، ولحظة تأسيسية، أخرى، ضمن المشروع النهضوي التنموي والحداثي للبلاد، ومواجهة كل الانعكاسات السلبية للجائحة، على مرافق الاقتصاد الوطني و مختلف شرائح المجتمع المغربي على مستوى دخلها كما على ميزانية الدولة
لذلك تم توجيه الحكومة لدعم “صمود القطاعات المتضررة، والحفاظ على مناصب الشغل، وعلى القدرة الشرائية للأسر، التي فقدت مصدر” رزقها.
كل ذلك في الإطار المستقبلي الشامل الذي تندرج فيه معالجة تلك الانعكاسات السلبية للأزمة. خاصة أن هذه الأخيرة قد كشفت أيضا عن مجموعة من النواقص، “في المجال الاجتماعي. ومن بينها حجم القطاع غير المهيكل؛ وضعف شبكات الحماية الاجتماعية، خاصة بالنسبة للفئات الأكثر هشاشة، وارتباط عدد من القطاعات بالتقلبات الخارجية”.
وهذا يدعو إلى اعتبار هذه” المرحلة فرصة لإعادة ترتيب الأولويات، وبناء مقومات اقتصاد قوي وتنافسي، ونموذج اجتماعي أكثر إدماجا” كما نص على ذلك الخطاب الملكي صراحةً وتأكيدًا .
وقد عدد الخطاب أولويات وإجراءات وقضايا هامة أهمها:
-” إطلاق خطة طموحة للإنعاش الاقتصادي تمكن القطاعات الإنتاجية لاستعادة عافيتها وتعزيز قدرتها على توفير مناصب للشغل والحفاظ على مصادر الدخل”.
– التخطي ل “ضخ حوالي 120 مليار درهم في الاقتصاد الوطني، أي ما يعادل 11 في المائة من الناتج الداخلي الخام. وهي نسبة تجعل المغرب من بين الدول الأكثر إقداما في سياسة إنعاش الاقتصاد بعد هذه الأزمة”.
– “إحداث صندوق للاستثمار الاستراتيجي مهمته دعم الأنشطة الإنتاجية، ومواكبة وتمويل المشاريع الاستثمارية الكبرى بين القطاعين العام والخاص.”
– “الإسراع بإطلاق إصلاح عميق للقطاع العام، ومعالجة الاختلالات الهيكلية للمؤسسات والمقاولات العمومية، قـصد تحقيق أكبر قدر من التكامل والانسجام في مهامها”.
– دعوة لإحداث “وكالة وطنية مهمتها التدبير الاستراتيجي لمساهمات الدولة، ومواكبة أداء المؤسسات العمومية”.
ولم يفت الخطاب الملكي التأكيد على أن الهدف من كل ذلك “هو النهوض بالتنمية، وتحقيق العدالة الاجتماعية والمجالية”.
وعلى هذا المستوى يمكن اعتبار التركيز على تعميم الحماية الصحية لعموم المواطنين من بين اللحظات القوية في خطاب العرش، لأنها تندرج ضمن ما اعتبرناه بوصلة التوجيه والعمل التي ظلت حاضرة لدى قائد البلاد رغم حساسية الظرفية الاقتصادية والاجتماعية الناجمة عن جائحة كورونا.
وهكذا اعتبر الخطاب الملكي أن من بين الأولويات، بهذا الصدد، توفير الحماية الاجتماعية وتعميمها لكل المغاربة، خلال الخمس سنوات المقبلة يتم الشروع فيها انطلاقا من يناير المقبل. ” وفق برنامج عمل مضبوط، بدءا بتعميم التغطية الصحية الإجبارية، والتعويضات العائلية، قبل توسيعه، ليشمل التقاعد والتعويض عن فقدان العمل”.
إن تعميم التغطية الاجتماعية كما يمكن استنتاجه من الخطاب الملكي لا ينبغي النظر إليه باعتباره عملا إحسانيا عاديا، بل ينبغي أن يشكل، “رافعة لإدماج القطاع غير المهيكل، في النسيج الاقتصادي الوطني.”
لذا، “ندعو ،يقول جلالته، الحكومة، بتشاور مع الشركاء الاجتماعيين لاستكمال بلورة منظور عملي شامل ، يتضمن البرنامج الزمني، والإطار القانوني، وخيارات التمويل، بما يحقق التعميم الفعلي للتغطية الاجتماعية”.
إن القراءة الموضوعية الهادئة، في خطاب تمت بلورته ضمن ظرفية جائحة عصفت بأرواح الآلاف وباقتصاد بلدان متقدمة، لتفرض على المراقب السياسي الموضوعي الاعتراف بأن القيادة السياسية المغربية قد كانت في مستوى التحدي، من حيث جرأتها في مقاربة الجائحة، ومن حيث قدرتها على حشد طاقات المجتمع والدولة في معركة شاقة بكل المقاييس، إلا أن الصمود والإرادة السياسية التي تحكمت في توجيه دفة المعركة بقيادة ملك البلاد، قد مكنت المغرب من ربح شوط هام منها. ومن شأن الإصرار على التعبئة الوطنية وانخراط كل القوى الحية فيها، وفق ما تضمنه الخطاب الملكي من قرارات وتدابير وتوجيهات، وضع الأسس الكفيلة بربح أشواط أخرى.