حسن السوسي
كل خرق للقانون عنف، سواء صدر عن الفرد أو عن الجماعة. مواجهة عنف الفرد أبسط من مواجهة عنف الجماعة، ذلك أن الفرد قد يرتدع بإكراه مادي أو معنوي، مثل الحبس والغرامة، أو بهما معًا، في حين أن تعقيدات انخراط الجماعة في خرق القانون تحول دون تعميم شكل واحد من الإكراه المادي أو المعنوي، إذ يقتضي التمييز في الجماعة بين المحرض والمنفذ بين المتعمد والمغرر به. وينبغي مقابلة كل واحد من هذين الصنفين بما يتناسب مع حالته، في لحظة ارتكاب الجنحة أو الجريمة، ضمن رؤية شاملة تستحضر المجتمع برمته، ولا تركز على من صدر عنه الخرق فحسب، كما هو الحال عندما يتعلق الأمر بالفرد.
وفي الحالتين معًا. فإن خرق القانون هو اعتداء على المجتمع، بوعي أو دون وعي. وليس من حق المجتمع التصدي للخرق فحسب، بل إنه واجب من واجباته التي تضطلع بها الدولة، باعتبارها التعبير عن الإرادة العامة.
إن المسألة لا تتعلق بالعمل على درء كل انحراف نحو فتنة أو ما يشبهها فقط، بل يعود أيضًا إلى ضرورة قراءة خرق الجماعة للقانون في مختلف أبعاده، الآنية وبعيدة المدى، حتى تأتي المعالجة متوافقة مع الصالح العام الذي يظل الموجه الرئيسي للذي يسن القوانين والذي يطبقها على حد سواء.
وهذا يعني أن خرق القانون الهادف إلى إحداث الفوضى والتمرد على ما يمثله من مؤسسات بشكل مباشر أو غير مباشر، يستدعي مقاربة تدرك هذا البعد، وتعمل على تطويقه وردعه، بما يتناسب مع خطورته على المجتمع برمته.
تثار عادة بعض التحفظات لدى جماعات تنظر إلى المجتمع وقضاياه من زاوية حقوق الإنسان الفرد، معتبرة أن على القيمين على إنفاذ القوانين التقيد بمقتضيات العهود والاتفاقيات الدولية الخاصة بحقوق الإنسان. وهذا أمر لا خلاف حوله، من حيث المبدأ، غير أن حصر كل قضايا المجتمع والنظر إليها من هذه الزاوية يقع في نوع من الاختزال المخل بضرورات حماية المجتمع ككل، من مضاعفات الإمعان في خرق القانون تحت أي مبرر كان.
لا جدال في أن مواجهة خرق القانون ليست اعتباطية، بل هي منظمة بالقانون، وليس بإمكان أي كان كان تجاهله، تحت أي ذريعة كانت، غير أن البون شاسع بين الهفوات التي تحدث عرضًا، وبشكل جزئي، وبين ممارسات منهجية مقصودة تضع القانون على الرف لتحكيم المزاجية أو ما شابه في التعامل مع من يقدمون على خرق القوانين.
وقد شكلت مسألة احترام حقوق الإنسان خلال الإجراءات الاستثنائية التي اتخذها المغرب للوقاية من انتشار وباء كورونا المستجد، موضوعًا للجدل بين عدد من النشطاء الحقوقيين انطلاقًا من معاينة تصرفات بعض من رجال السلطة خلال أداء مهمتهم في العمل على احترام إجراءات الحجر الصحي. وإذا كانت ممارسة ما من تلك الممارسات، التي تظل استثنائية إلى أبعد الحدود غير مقبولة، من وجهة النظر الحقوقية والقانونية أيضًا ، فإنها لا ينبغي أن تتحول إلى الشجرة التي تحجب الغابة، لأن في ذلك إضرارًا بالمجتمع وسلامته على مختلف المستويات.
إن الاستثناء، غير المقبول، لا ينبغي تحميله دلالات أكثر من الدلالة التي يحملها باعتباره تصرفًا فرديًا معزولًا واستثنائيًا يخضع للتقييم من هذا المنظور، ليس من قبل المنظمات الحقوقية فقط، وإنما، أيضًا، من قبل الدولة ومؤسساتها المختصة. وبالتالي، فإن كل تأويل مغرض، في هذا المجال، ليس في حقيقته غير محاولة من محاولات جعل شجرة الفعل الاستثنائي المعزول حاجبًا لغابة الجهود الجبارة التي تبذلها الجهات المختصة في سبيل احترام القانون الذي تم سنه من أجل حماية المواطنين دون استثناء من عدوى الوباء.
قد يتم التركيز، كما فعل البعض، لما تبين له أن الاتجاه العام السائد في البلاد هو دعم الإجراءات التي اتخذتها الدولة في هذا السياق، على أن الغاية من إبداء ملاحظاته، حول هذه الممارسة أو تلك، هي التنبيه إلى عدم الوقوع في انزلاقات منافية لمقتضيات القوانين والمعاهدات الخاصة بحقوق الإنسان، حتى في الظروف الاستثنائية التي تواجه الدولة مثل ما هو عليه الأمر في الوقت الراهن. غير أن ما يندرج في سياق التنبيه المشروع يصبح مصدر تساؤلات مقلقة عندما يتخذ منحى تبخيس جهود الدولة ومؤسساتها، حيث تتحول تلك الملاحظات إلى مطية لتبرير إحياء خطاب سلبي تجاوزته الأحداث والممارسات الفعلية لمختلف المؤسسات الساهرة على تطبيق القانون على العموم.
ينطلق البعض من أن كل تعنيف يصدر عن القوات العمومية مدان، في حد ذاته، دون الانتباه أن فلسفة ردع المخالفين تقوم على المزاوجة بين بيداغوجية التحسيس والإقناع وبين كل أشكال التعنيف المشروعة بطبيعة الحال، والتي تؤطرها القوانين الصريحة الواضحة ولا تخضع لأي اعتبارات أخرى.
وعلى سبيل التذكير، فإن القانون عندما يتحدث عن الإكراه البدني ويمارسه فهو يتحدث بالذات عن ممارسة عنفه المشروع في مواجهة من يتجرأ على ارتكاب جنح وجرائم تخضع لأحكامه. وهذا يعني أن اللجوء إلى العقوبات السالبة للحرية أو المقيدة لها، من سجن وغيره، ليس إلا شكلًا من أشكال هذا العنف الذي تواجه به الدولة العنف الممارس من قبل المخالفين.
ويبدو لي أن الموقف المنتقد أو المشكك الذي عبر عنه بعض الناشطين في مجال حقوق الإنسان من الاعتقالات التي طالت المخالفين لإجراءات الحجر الصحي الراهن يذكرنا بسابقة عرفها المغرب في السنوات الأولى لعهد الملك محمد السادس، ذلك أن من صدرت عنهم تلك المواقف على تنوع أطيافهم قد صدروا، عن جوهر واحد على الرغم مما يبدو من التباين الفكري والأيديولوجي بينهم.
فقد تزامن أول عهد الملك محمد السادس مع تعميق التوجه الرسمي نحو الانفتاح السياسي والتخفيف من أجواء الاحتقان في المجتمع المغربي أيا كانت دواعيها وأسبابها فتم إطلاق سراح عدد كبير من المعتقلين عبر إجراءات العفو الملكي، وهو عفو ثمنته مختلف القوى الحية في بلادنا حيث رأت فيه بادرة تؤكد حرص العهد الجديد على توسيع مجالات الحرية وترسيخ نهج جديد في التعامل مع مختلف فئات الشعب المغربي. غير أن الأعمال الإرهابية التي هزت مدينة الدار البيضاء أساسًا بتاريخ 16 ماي 2003 أدت إلى اعتقال أعداد كبيرة من الأوساط الإسلامية المتطرفة التي انتمى إليها أو تعاطف معها الإرهابيون وخاصة السلفية الجهادية أو المقاتلة. فكان أن حاولت أوساط تلك الجهات، ومن يتعاطف معها الزعيق بنظرية المؤامرة التي تعرضت لها. وبدأت تشكك حتى في حقيقة العمليات الإرهابية محاولة الربط العبثي بل والبئيس بين إطلاق سراح المعتقلين عبر العفو الملكي وبين موجة الاعتقالات التي عرفها ما بعد العمليات الإرهابية في الدار البيضاء، في إيحاء غريب بأن إطلاق سراح المعتقلين لم يكن في الأصل إلا بغاية إفراغ السجون لتستقبل المعتقلين الجدد من التنظيمات الإسلامية التي تتعرض لمؤامرة مزعومة.
وهو على وجه التقريب ما يفعله اليوم من يحاولون الربط بين إطلاق سراح المعتقلين ( أكثر من خمسة آلاف معتقل) قبل أيام لظروف إنسانية في زمن الوباء، كما جاء في بلاغ العفو الملكي، وبين النظر إلى المعتقلين الجدد جراء خرق القانون، ذلك أن أصحاب هذه المواقف لا يقومون إلا بمحاولة التشكيك في نوايا الدولة بخصوص تخفيف السجون من واقع الاكتظاظ الذي تعيشه كما فعل ” أسلافهم”.
ولا يغير في شيء من هذا حرص البعض على القول: إن عدم شمول قرار العفو لمعتقلي أحداث حراك الريف هو الذي يدعو إلى طرح التساؤلات حول النوايا.
لقد آن أوان الخروج من منطق نظرية المؤامرة الذي يعبر عن نفسه بأشكال مختلفة عند كل المحطات الكبرى التي تجتازها البلاد، لإعطاء الأحداث الملموسة ما تستحق من اهتمام، والقطع مع منطق البحث عن الأسباب والدواعي الخفية التي لن تقنع أحدا في تفسير تلك الأحداث، بمن في ذلك من يرفعون عقيرتهم بالصراخ خوفًا من مؤامرات يعرفون جيدًا أن لا علاقة لها مع ما يجري في الواقع.