هناك مؤشرات على ضعف المعارضة التونسية، ومنها المؤشر البليغ المتمثل في الإقبال المحتشم على مظاهرات 12 سبتمبر/أيلول الماضي، بمناسبة يوم الغضب الذي حرصت المعارضة على تنظيمه، في مظاهراتٍ تمنت أن تكون حاشدة. لن تفيد التبريرات التي قدمت، خصوصاً وأن الجميع قد وعد بأن المظاهرات ستكون حاشدة. هناك أكثر من مبرر لذلك التفاؤل: الصلف الذي قابلت به قوى الأمن المعلمين المعتصمين في الإدارات الجهوية للتربية، والفلاحين الذين طالبوا بتحسين ظروفهم، والشباب الذين رفضوا مشروع ما سمي قانون المصالحة، وأخيرا الرفض القطعي للمظاهرات الذي أعلنت عنه وزارة الداخلية في تزامن مريب مع تحرش بعض قيادات حزب نداء تونس بالمتظاهرين، بدعوى أن البلاد واقعة تحت قانون الطوارئ.
كان الناس يردّدون، إلى وقت قريب، أن “الحكم يهري”، أي يبدد ويبيد كل من يمارسه، خصوصاً في مرحلة عسيرة، كالتي عرفتها تونس بعد الثورة. وقد تزامن الانتقال الديمقراطي الذي مرت به البلاد، ولا تزال، مع ضعف غير مسبوق للدولة، في مقابل استئساد فئات وجهات عديدة، تجرأت عليها وقضمت من سلطتها. حدث هذا للترويكا التي حكمت طوال سنتين، خصوصا في ظل لوبيات تلاعبت بالمزاج الشعبي، وقلبته كما تشاء. كان أمن المواطن ورغيفه وصفة النجاح، في ظل خبرة افتقدها بعضهم. ولكن، ها هم صانعو الفخاخ يكونون أولى ضحاياها. فبعد خمس سنوات، تآكل الحاكمون ومعارضوهم معاً، وغدت ربما المعارضة عرضة، أكثر من غيرها، للتهرئة.
المزيد: هل تتراجع الحكومة التونسية عن مشروع قانون المصالحة؟
تبيّن حالياً أن المعارضة فقدت كثيراً من جاذبيتها، خصوصاً وأنها لم تعد هواية نضالية، بل غدت لدى عديدين، في أفضل حالاتها، منافسة مفتوحة على المواقع، بقطع النظر عن الموارد والبرامج. حدثت، في السنوات الأخيرة، نقلة مهمة، قطعت فيها المسافة الفاصلة من المعارض المضطهد إلى المعارض الواجهة. المعارض في البلاتوهات إلى المعارض في المظاهرات تحت كاميرات الإعلام العمومي، حين يتحول نجماً للتهريج والصفاقة أحياناً، باستثناء حالاتٍ بعينها تستحق التقدير. فقدت المعارضة، في جزءٍ كبير منها، تلك الجاذبية وزالت رصانتها وبريقها. ها هي المعارضة نفسها تجلس مزهوة في الحكومة والبرلمان والرئاسة ومؤسسات الدولة كلها. ولا تعنينا، هنا، غابة الصور المتناقضة للمعارض، بل الملامح الجديدة التي يرسمها الناس تصورات حية له.
يبدو أن حالة التعبئة في تونس لا يمكن أن تستمر ضد الحكومة إلى ما لا نهاية. لذلك، حدث هذا الارتخاء وانفض الناس من حولها، من دون أن ننسى أن حالة الغموض التي تلف هوية الحكومة بالمعنى الأيديولوجي ساهمت في إرباك المعارضة، خصوصاً وأن لنا في تونس معارضة إيديولوجية في المقام الأول، ولما التبس عليها لون الحكومة ارتخت ولانت. كان عداء الترويكا، في اعتقادي، أيديولوجياً، ودليل ذلك أن الخيارات الحالية لا تختلف سياسياً في جوهرها عما سبقها، من دون أن تثير في المعارضة شراستها التي عهدناها سابقاً.
المزيد: تونس: النهضة تدافع عن قانون المصالحة وتدعو لمزيد من الحوار
ما نجم عن ذلك هو تآكل الطبقة السياسية برمتها، وشمل ذلك، وبشكل عميق وخطير، أجهزة الدولة، حكومة ووزارات بدأت خصخصتها ثانية، ما سيكون له تداعيات خطيرة على المستويين، المتوسط والبعيد. ولتآكل الطبقة السياسية وتهرئتها أكثر من مؤشر، تعثر مبادرة حراك شعب المواطنين، فشل الجبهة الشعبية في أن تكون بديلاً رصيناً خارج خطاباتها الوردية، خلافات الحزب الحاكم الذي شغلته حسابات الأجنحة، حتى يكاد يفقد عموده الفقري. كما أن من علامات ذلك العجز الخلافات الحادة التي تعصف بأحزاب الوسط الديمقراطية الاجتماعية الناجمة عن طموحات متورمة لبعضهم، وحسابات ضيقة لآخرين، في سياقٍ تنكمش فيه هذه الأحزاب، ذلك ما حدا بحزبٍ يساري صغير، خرج من الانتخابات الأخيرة بأقل من خفي حنين، إلى توجيه دعوة إلى نظيرته، حتى تنضم إليه.
أما الحكومة، فإنها تقتقد إلى مشروع موحد لأعضائها، يضاف إلى ذلك عجز رئيس الحكومة، الحبيب الصيد، عن إدارة فريقه الحكومي بشكل فعال، ما جعل جل الوزارات “خارج السيطرة”، وهو ما دفع الوزراء، أكثر فأكثر، إلى العمل لفائدة أحزابهم في أفضل الحالات، في حين ارتهن آخرون إلى لوبيات مال وإعلام.
يتساءل بعضهم، في أكثر من صحيفة ومجلس، عمّن يحكم تونس حالياً، وهو سؤال لا يريد أن يمتحن فرضية التأثيرات الممكنة من هنا وهناك على الحكومة في ظل ضعفها وضعف مؤسسة رئاسة الجمهورية معاً. ولكن، تقع فرضية هذا السؤال في خلفية بروز ظاهرة “وزراء التوقيعات” الذين باتت تحركهم لوبيات، أو تدار وزاراتهم من وراء كواليس شرسة. لا يتعلق الأمر بضعف الدولة فحسب، بل عجزها عن مزاولة وظائفها التقليدية على غرار الدمج والتأطير والمراقبة.
يفترض في الديمقراطية أن توسع المشاركة السياسية والتخفيف من الإقصاء والتهميش السياسيين قدر الممكن. ولكن، فيما تجني البلاد من ديمقراطيتها الناشئة عكس ذلك، ينتشي بعضهم، ويوزع “الشربات”، بلغة الأفلام المصرية، متناسين أن مئات الآلاف الذين يعرضون عن الدولة ومؤسساتها ونخبها السياسية، بما فيها المعارضة، سيبنون لا محالة مملكاتهم السياسة بشكل آخر: الإرهاب والجريمة والهجرة، إنها سياستهم السالبة. هناك وظائف أخرى للنخب السياسية، عادة ما نتناساها، في حمّى خصوماتنا ومنافساتنا الشرسة، تتجاوز بدورها منطق الربح والخسارة الانتخابيين، إنها التأطير السياسي للمواطنين، بل وشدهم إلى أوطانهم، مشاريع حياة وسياسة..
ما الذي تبقى من سفينة نوح، حتى ننجو من طوفان هذا العبث؟ يتوهم بعضهم أن هناك الاتحاد العام التونسي للشغل قلعة النجاة، وهو الذي بحكم البلاد والعباد، كما تقول بعض قواعده المنتشية من عنف الدوار. لن يكون هذا في صالح الاتحاد، فضلا عن السياسة والديمقراطية معا.
اتحاد قوي يلعب وظائفه الاجتماعية هو المطلوب، أما وضع يده على السياسة، في ظل إضعاف الدولة ومؤسساتها من شأنه أن يجعل السياسة ترحل إلى عالم الأوكار المظلمة، حيث تحدد مافيا المال والإعلام والاستعلامات واللوبيات مصائرنا القادمة، ولن يقدر الاتحاد أن يتحكم في تلك اللعبة، لأنها بلا قواعد أصلاً، وتلك قاعدتها.
لن نخفف من وطاة ما يحدث، من دون أن نحدّد المهام العاجلة للمعارضة، خارج منطق الأولويات التي عهدناها، إنقاذاً للسياسة والديوقراطية معاً.
*كاتب تونسي/”العربي الجديد”