بقلم: طالع السعود الأطلسي
خلال ثلاث أسابيع، مابين 16 أكتوبر و6 نوفمبر، سيفتح المغرب، ذاكرتَه الوطنية على حدث المسيرة الشعبية التي حققت استرجاع الأقاليم الصحراوية، سِلْميا، إلى الوطن المغربي، من الاحتلال الاسباني، يوم 6 نوفمبر 1975. ذلك الحدث، بوقْعه التاريخي، جدير بأن يكون حاضرا في حياة المغرب، على مدار السنة، في الإعلام في التعليم في الأدب وفي الفن… وفي أنشطة التكوين الداخلي الحزبية، والتي من المُفترض أن تكون واحدة من مبررات وجود الأحزاب… التي يُفترض أن تكون مدرسة التأطير الوطني والسياسي للمواطنين وللشباب منهم بخاصة… يُفترض…
المسيرة الشعبية، تلك، امْتَلَكَتْ قُدرة على صون نَضارة صلاحيتها، لعقود بعد وقوعها، فكرة في حضن عبقرية الملك الحسن الثاني. هي ليست مُجرد حدث وقَع… وانتزَع صفحة من التاريخ… هي، وحتى يومنا هذا، حدث واقِع… مُستمر الوُقوع… مَفْعولها يَسري في كل صفحات التاريخ المواكبة لهذه الحقبة… إنها المولد التاريخي لكل الأحداث ما بعدها، في هذا المسلسل الطويل، والناجز لاستكمال مُقومات بناء الوطن المغربي، بالروافع الوطنية، الديمقراطية والتنموية…
تميز الملك الحسن الثاني، بصوغه لإستراتيجية تدبير مغرب ما بعد التحرُّر من الاستعمار… باستخراجها من الرَّصيد السياسي للكفاح الوطني ضد الاستعمار… وفيها بُعد نَظر، وحتى إقدام، قياسا “لثقافة” تدبير الدول الحديثة الاستقلال، في عصره… أوْلى عناصرها هو الاختيار الديمقراطي… عبر صون التعددية الحزبية، تأمينا لاستمرار المشاركة الشعبية، بتنوُّع تعبيراتها السياسية… الاستراتيجية الحسنية سَنَواتَئِذٍ، تمثَّلت في فتح ورش الإصلاح الزراعي، وفي الجوهر منه الحرص على بناء السدود… السدود، أيامها قيل فيها ما لا أُذُن سمعت من قبل… واليومَ هي رصيد ثمين في العُدَّة التنموية المغربية وفي عتادها… وثالث توجهات تلك الاستراتيجية، تمثَّلت في تشبُّت الحسن الثاني باستكمال وحدة التُّراب الوطني، بالإلحاح على استرجاع الأقاليم الصحراوية وسبتة ومليلية… استرجَع المغرب طرفاية وسيدي إفني، وتواصل الضغط المغربي في الأمم المتحدة خلال ستِّينيات وبداية سبعينيات القرن الماضي، من أجل تصفية الاستعمار من الأراضي المغربية المحتلة… إلى أن تسارعت الأحداث أواسط سبعينيات القرن الماضي… وكان فرانكو في إسبانيا يحتضر، و”الفرانْكاوية” تُدَبِّر مُؤامرةً ضد المغرب… وبتبصُّرِه وعبقريته، أطلق الحسن الثاني المشاركة الشعبية المغربية في استرجاع أقاليمنا الصحراوية، عبْر المسيرة السلمية في نوفمبر 1975… لينطلق معها مَسار تاريخي ما فتئ ينمو، يتَّسع وينتصر للصحراء المغربية، للمغرب ومفتوح على المنطقة المغاربية عامة… المسيرة الشعبية، كانت مُتأَصِّلة في استراتيجية ملكية لتدبير وطن، ولهذا كانت وطنية من حيث المشاركة فيها، ووطنية من حيث مفعولها على عموم الوطن المغربي… حَمَت الوطن من قضْمٍ لبعض جغرافيته ومن السَّطْو على تاريخه… المسيرة سيَّجت حقوق الوطن، غذَّت مَناعتها وأكْسَبَتْها دوام المناعة في التاريخ… كما هي عليه اليوم… حقوقٌ عميقة الجذور، باسِقَةٌ وفوَّاحةٌ بمغربية الصحراء وبِصَلابة الوحدة الوطنية… ولهذا تبقى المسيرة مُمْتدَّة الفعَّالية في هذا الوطن… كأنها كل يوم تحدُث لأوَّل مرَّة… فاعِلة في مسارات تنموية، في تكريس الاختيار الديمقراطي، في التحديث المجتمعي، في التفعيل الاقتصادي وفي التطوير الصناعي… ما بين مدٍّ وجَزْرٍ، تَقدُّم وتَعثُّر وما بين تراجُع ومُراجَعَة… لكنَّه مَسارٌ مُتحرِّكٌ ويُراكمٌ المكتسبات ويُحقق تحوُّلات نوعيَّة…
الملك محمد السادس، واصل على نفس النهج، بتحويرات نوعية وبإيقاعات أكثر حيوية… نسج مشروعه الإصلاحي والتحديثي على نَوْل المسيرة الخضراء… مَلَأَ استراتيجيته بالبُعد الوطني والنَّفَس الديمقراطي… والحِسِّ الاجتماعي… إستراتيجية طالت كل الفئات والقطاعات الاجتماعية، إقرارا لحقوقها وتحقيقا لنهضتها وتحفيزا لمشاركتها في المجهود الجماعي المغربي، المُتَطلِّع لمغرب مُتقدم في وحدته وُموحد في تقدمه… ومن تلك الإستراتيجية انبثقت سلسلة الإصلاحات العميقة والمتواصلة، والتي سرَتْ في أنسجة الكيان المغربي ثورة، نافذة، هادئة وشاملة، طالت البنيات السياسية، الاجتماعية والاقتصادية والثقافية للمغرب… جدَّدت المغرب في آلياته الداخلية، ومكَّنتْه من ديناميكية دولية مُميزة… ومنها انبثق مقترح الحكم الذاتي في الأقاليم الصحراوية المغربية، لحلِّ النزاع حولها سلميا… وهي مُبادرة ما كان لها أن تصدُر إلا عن ملك قوي بالتحام شعبه معه… ملك هو قائد تاريخي، مُتحرر من أثقال الماضي، مُنتصر على مُثَبِّطات الحاضر وَوَاثِقٌ من كسب المستقبل لصالح تحوُّل تاريخي، مُثمر، مغربيا، ومغاربيا…
لقد امتدَّ الملك محمد السادس بمَفْعول المسيرة الوطنية المغربية إلى أُفُقِها الاستراتيجي… فَعَّل التأويل الديمقراطي، الواقعي والفعَّال لمفهوم تقرير المصير… تقرير مصير وطن، يمتّن وحدته ويغتني بتنوع مكوناته… وتقرير مصير الشُّعوب المغاربية، يُفَكِّك ما يُفرمِل وحدَتَها، يُخْمِد نيرانَ نِزاع، يَشغلها ويَنْثُر جهودَها هباء… الأفق الاستراتيجي لمبادرة الحكم الذاتي هو المجال المغاربي وفي جوهره تعْبِئة العلاقات المغربية الجزائرية برصيد التاريخ المشترك وتغذيتها بطموح الأخوَّة والتضامن للنهوض بتحديات التقدَّم للشعبين وللشعوب المغاربية… تقرير المصير داخل الأقاليم الصحراوية المغربية، وبكل القراءات القانونية والسوسيولوجية والسياسية، تم بحماس وبوُضوح، منذ نوفمبر 1975… ومن يومها والمواطنون في الأقاليم الصحراوية، وهم الأغلبيةُ الغالبة من مواطنيها والمُنْتَسِبين لها، يُؤَكِّدون عليه ويُشهِدون العالَم على مصيرهم المغربي، عبر الاستفتاءات الوطنية وعشرات الاستحقاقات الانتخابية المحلية والتشريعية… ويُثبتونه بوجودهم الفعلي في الفعاليات، السياسية، الاقتصادية، الاجتماعية والثقافية التي لها اليوم حَوْصلة تنموية باهرة في مُدن وقرى الصحراء المغربية ولها امتدادات على باقي الوطن المغربي…
مقترح الحكم الذاتي هو ممر آمن، في اتجاه المستقبل، أمام البوليساريو لانتشالها من أَسْر أوهامها… أوهامٌ هي ليست حِمل لها، كونُها جماعة من القِلَّة القليلة للصحراويين المغاربة، وبفعل تقادم مُنطلقاتها والتي بها كانت تشغلها قيادة الجزائر في صراعها ضد المغرب، تحت مبررات الحرب الباردة للقرن الماضي… وأيضا لأن الأوهام تبددها حقائق تطورات الوضع المغربي، وحقائق تطورات مُوَجِّهات السياسة الدولية… ولَعَلَّ جَماعة البوليساريو تتمكن من خلال مقترح الحكم الذاتي من تقرير مصيرها… وتلتحق بمسار التقدم المغربي… متحررة من قبضة القيادة الجزائرية…
مقترح الحكم الذاتي، هو نفسه فرصة للقيادة الجزائرية لكي تفتح لها مسارا آخر مع المغرب، غير هذا النهج الذي سارت عليه، ويقودها إلى نطح سور الحق المغربي المتين… حل النزاع، الذي أدمنت عليه ضد المغرب، وعبر مدخل مقترح الحكم الذاتي، سيشرفها إذا تجاوبت مع مُبادرة سلمية، الواقعية والممكنة الوحيدة، منتصرة على نفسها وعلى كوابح رواسب ماضيها… لتنفتح على تعاون مع المغرب. مفتوح على تبادل المنافع والمكاسب للدولتين وللشعبين… إنها مدعُوة لتقرير مصيرها نفسها من خلال مَعبر الحكم الذاتي… لتنفذ إلى المسار، المؤمن بصوابية اتجاه التاريخ… الرئيس عبد المجيد تبون، تساءل مؤخرا “كيف لا يتوفر للجزائر وهي تحتفل بالذكرى الستين لاستقلالها، منفذا إلى المحيط الأطلسي”… يكفي السيد الرئيس أن يتجاوب مع نداءات الأخوة والتعاون الملكية، وأن يلغي كل إجراءات العداء مع المغرب… وأن يتجاوب مع مُقترح الحكم الذاتي لحل نزاع الصحراء… يكفيه ذلك، لكي ينْفُذَ إلى مسار السلم والأخوة ويعبُر منه إلى ديناميكية تاريخية مع المغرب تؤمن له العبور إلى المحيط… وإلى آفاق ومجالات واسعة، مشتركة، للتقدم والازدهار.