بقلم: نوفل البعمري
لم يكن مفاجئا أن تعلن البيرو بعد وصول الرئيس الجديد بيدرو كاستيلو، للحكم إثر الانتخابات الرئاسية التي جرت غشت الماضي، وهي الانتخابات التي أعادت أقصى اليسار بهذا البلد لقيادته في ظل وضع تعيش فيه على وقع عدم استقرار سياسي ومؤسساتي، هذا الوضع المضطرب المؤسساتي شكل أرضية خصبة لعودة خصوم المغرب للتأثير على الرئيس الجديد، للتراجع عن الموقف الذي أعلنه وزير خارجيتها ميغيل أنخيل رودريغز الذي استقال من منصبه بعد خمسة أسابيع من وصول الرئيس الجديد، بسبب انحراف الرئيس البيروفي عن الشرعية الدولية وعن المسار السياسي الأممي لملف الصحراء.
ويمكن إرجاع الموقف البيروفي الانتكاسي لهذه الأسباب:
– البيرو تعيش على وقع فضائح سياسية كبيرة، قام المدعي العام بجمهورية البيرو برفع دعوى قضائية من أجل التحقيق في قضايا فساد مالية وإدارية، وهو الأمر الذي يُعتبر سابقة في تاريخ هذا البلد، حيث يتم التحقيق فيها مع رئيس البلد وهو يزاول مهامه الانتدابية، هذه الفضائح السياسية التي أصبحت اليوم موضوع تحقيق قضائي مع الرئيس ومحيطه، تشكل أرضية خصبة لخصوم المغرب من أجل اختراق محيطه قصد دعمه واستغلال تململ الوضع السياسي من أجل إيهامه بأنهم يستطيعون حمايته ودعمه مالياً، لذلك فالموقف لذي أعلن عنه هذا الرئيس لا يمكن عزله عن الظرفية التي تعيشها جمهورية البيرو، فالأزمة السياسية التي يعرفها البلد وعدم الاستقرار الحكومي والتدبير العشوائي لمختلف الملفات الداخلية والخارجية التي يبدو أنها ستكون سمة أساسية في حكم رئيس جمهورية البيرو لبلده، سيدفعه كل ذلك إلى الارتماء في حضن الأنظمة التي تعيش نفس الوضع المضطرب، وما هذا الموقف إلا تعبير عن هذا التخبط الذي تعيشه البيرو.
– إن موقف الرئيس البيروفي من ملف الصحراء، يشير بشكل لا يدع مجالا للشك بأن هذه القيادة تفتقد لرؤية دبلوماسية واضحة ورشيدة، فبدل أن تستمر في إعلان دعمها للدينامية الدولية الداعمة للوحدة الترابية للمملكة المغربية ولمبادرة الحكم الذاتي، باعتبارها الحل السياسي الأمثل لطي هذا النزاع الإقليمي حول ملف الصحراء، فقد فضل هذا الرئيس في إطار سياسة تكريس التخبط الدبلوماسي التي دخلت فيها البيرو إلى الاستناد على مواقف سياسية متجاوزة تتناقض مع القانون الدولي، ومستندة على حجج واهية وأوهام لا سند قانوني أو سياسي لها.
– القرار البيروفي الذي انقلب فيه الرئيس الجديد على الموقف الطبيعي لدولة البيرو من قضية الصحراء، لا يحظى بإجماع الطبقة السياسية حتى تلك المحيطة به، عدم الإجماع هذا يظهر افتقاره لرؤية واضحة على مستوى العلاقات الخارجية، وسيؤدي بما لا يدعو مجالا للشك إلى فقدان الثقة في سياسة البيرو الخارجية المُتسمة بتغول إيديولوجية بائدة لم يعد لها أي حضور في الساحة الدولية وفي تضارب حقيقي وطبيعي مع مصالح البيرو الحيوية، كما سيؤثر على صورة هذا البلد وعلى سياسته المعروفة تاريخيا بالحكمة والاستقرار، وهو النهج الذي لطالما اتبعته الدبلوماسية البيروفية التي انقلب عليها الرئيس الجديد.
– واحدة من مظاهر التخبط الذي تعيشه البيرو والتي تعكس ما قلناه حول عدم إجماع محيط الرئيس على موقفه الجديد، ما صدر عن سفير جمهورية البيرو في المغرب الذي جدد في حوار له موقف بلاده الداعم لمغربية الصحراء، في موقف يعكس وعي هذا السفير بالروابط التاريخية التي تجمع البلدين والتي لا يمكن المغامرة بها بموقف سلبي تجاه المغرب، وهو الموقف السلبي الذي تبناه الرئيس وأعلن عنه في تدوينة على تويتر، في تناقض غريب مع بلاغ خارجية بلاده الصادر يوم 18 غشت الذي أعلنت من خلاله جمهورية البيرو عن سحب اعترافها بـ”الكيان الوهمي”، وتأكيدها على احترامها للوحدة الترابية للمملكة المغربية وسيادتها الوطنية، وكذا لمخطط الحكم الذاتي المتعلق بهذا “النزاع الإقليمي” حول الصحراء المغربية، في تناغم تام مع تصريحات سفيرها بالمغرب، هذا التضارب في المواقف أدى وسيؤدي إلى أزمة سياسية في البيرو.
– التغريدة التي نشرها الحساب الرسمي للرئيس البيروفي بيدرو كاستيلو لا تثير الاستغراب فحسب، بل تزيد من غموض وضبابية البلاغ الصادر عن وزارة العلاقات الخارجية بجمهورية البيرو، باعتبارها الناطق الرسمي باسم السياسة الخارجية للبلاد، لكون تلك التدوينة تُوظف قراءة سياسوية لفكرة تقرير المصير باعتبارها أداةً للتنصل من الحجج التي أدلى بها وزير العلاقات الخارجية البيروفي السابق، للدفاع عن احترام القانون الدولي والوحدة الترابية للدول، بحيث إننا أمام تصورين الأول يعبر عنه الرئيس وهو يقدم فيه قراءة غير دينامية وجامدة ومتجاوزة لفكرة تقرير المصير التي لا تعني بالضرورة الاستفتاء، وبين ما طرحه وزير الخارجية المستقيل الذي أظهر وعياً يُحترم عليه ويستحق عليه الدعم فيما يتعلق بطبيعة النزاع والمخرج السياسي له من خلال دعم مبادرة الحكم الذاتي التي تستجيب لروح فكرة تقرير المصير وتقدم معنى ديموقراطيا لها.
البيرو وكما جاء على لسان سفيرها بالمغرب في التصريح الذي أدلى به بخصوص موقف بلاده من الصحراء، فهو قد أكد أن ليما لم يكن لها أي ارتباط أو تقارب دبلوماسي أو سياسي مع الكيان الوهمي، هو نفس الموقف الذي كان قد عبر عنه “إيرنيستو بوستامانتي” رئيس لجنة العلاقات الخارجية في كونغرس دولة البيرو ”أن الحل الوحيد للنزاع المفتعل حول الصحراء المغربية يمر عبر مقترح الحكم الذاتي الذي تقدمت به المملكة المغربية من أجل الطي النهائي لهذا الملف”.
يبدو أن بلاغ خارجية الوزير المستقيل هو خارطة الطريق التي ستشتغل عليها مختلف الشخصيات البيروفية العقلانية وذات التأثير القوي في مختلف الأوساط السياسية والأكاديمية داخل البيرو، من أجل إعادة موقف بلادهم لسكته الدبلوماسية الطبيعية ولإخراجها من حالة التخبط الدبلوماسي التي باتت تعيشها مع الرئيس الجديد، وهي الشخصيات التي يجب الرهان عليها ودعم الحوار وأواصر الصداقة معها، للحفاظ على علاقة قوية داخل العمق البيروفي في انتظار إنضاج الوضع السياسي لعودة هذا البلد الذي كان دوماً صديقاً للمغرب لسكته الطبيعية، سكة دعم وحدة الدول على رأسها وحدة المغرب.