بقلم: نوفل البعمري
خطاب الملك في ذكرى ثورة الملك والشعب لهذه السنة جاء حمالاً لعدة أبعاد ذات بعد دولي ووطني، وهي أبعاد تعكس ما تم إنجازه في عدة ملفات تحظى بأولوية في أجندة المغرب التي تقودها المملكة المغربية بفضل الاختيارات التي يضعها الملك في كل تحول يعيشه المغرب، وهي تحولات ارتبطت ارتباطا مباشرا بما تحمله ذكرى ثورة الملك والشعب من قيمة وطنية وتاريخية، تعكس تلاحم العرش والشعب في قيادة ثورات داخلية وخارجية.
خطاب هذه السنة، طرح ثلاث قضايا رئيسية، يمكن تقديمها في ما يلي:
1- تقييم إيجابي للمُنجز في القضية الوطنية:
الخطاب الملكي، وهو يقوم بتقييم ملف الصحراء وما تحقق فيه من إنجازات قدم تقييما جد إيجابي لما تحقق من طرف الدولة المغربية ورجالاتها من مختلف الأجهزة الخارجية، خاصة «لادجيد» و الداخلية منها وبدعم من مختلف الفاعلين والمهتمين بالملف، خاصة المجتمع المدني الصحراوي بمختلف تلاوينه، وهي نجاحات كبيرة ذات بعد استراتيجي، وليست فقط تحولات تكتيكية أو ظرفية، بل بحمولة كبيرة جدا تعكس مختلف المواقف التي تم الإعلان عنها من ملف الصحراء من طرف الفاعلين الدولتيين والتكتلات الإقليمية، وهي مواقف انطلقت منذ سنة تقديم مبادرة الحكم الذاتي للأمم المتحدة سنة 2007 لطي النزاع المفتعل حول القضية الوطنية، والتي جاءت بفضل التوجهات الكبرى والاستراتيجية التي وضعها الملك وبرزت ملامحها الكبرى بدءا من خطاب القمة المغربية الخليجية، ثم خطاب المسيرة الخضراء لسنة 2015 إلى مختلف الخطب التي حدد فيها الملك طريقة عمل الدبلوماسية المغربية وتحركها خارجيا وداخليا خاصة في المنطقة، وهي التحركات التي انتهت بما سماه الخطاب الملكي «بالموقف الثابت للولايات المتحدة الأمريكية» الذي لا ولن يتغير بتغير الإدارات الأمريكية، وهو رد مباشر على كل البروبغندا التي تحاول إيهام الرأي العام الدولي بكون الموقف الأمريكي ظرفي فقط.
وقد كان لافتا في الخطاب أن يذكر بما تحقق دبلوماسيا، وهو يستعرض الدول التي اعترفت مؤخرا بمغربية الصحراء وبالمبادرة المغربية كحل وحيد لطي الملف، سواء ألمانيا أو إسبانيا أو صربيا… وغيرها من الدول التي تنوعت جغرافيتها القارية التي تمتد من أوروبا إلى إفريقيا، آسيا وأمريكا الشمالية واللاتينية، وهي كلها كانت بفضل الحوار الذي قاده الملك بشكل مباشر مع عدة دول «إسبانيا» انتهت كلها بانتراع المغرب لمواقف داعمة لسيادته على الأقاليم الصحراوية انعكست إيجاباً على القرارات الصادرة عن مجلس الأمن التي أصبحت متبنية للطرح المغربي كحل وحيد للملف.
هذه الإنجازات التي تحققت هي إنجازات ليست عادية،ولم تكن لتتحقق لولا طبيعتها الجيواستراتيجية والأسس التي حددها الملك «الوضوح، الشجاعة، الشراكة»، وهي أسس أصبحت اليوم الموجه لعمل الآلة الدبلوماسية المغربية والاستخباراتية الخارجية والداخلية، المجتمع المدني والفاعلين المنخرظين جميعا في تنزيل هذه التوجيهات والتوجهات التي وضعها الملك وأعادت التذكير بنتائجها في خطاب ثورة الملك والشعب.
2-نظرة استباقية للموقف الفرنسي:
الخطاب في شقه المتعلق بالحديث عن الشركاء والحلفاء التقليديين والجدد يوجه رسالة واضحة إلى فرنسا التي لم ترد للآن الخروج من منطقتها الرمادية والضبابية في العلاقة بالموقف من ملف الصحراء، لقد كان يُنتظر من فرنسا باعتبارها شريكا تقليديا للمغرب أن تكون هي الرائدة والقائدة للدول الأوروبية التي أعلنت وتعلن عن دعم مغربية الصحراء، لكنها لم تخرج بعد من المنطقة التي وضعت فيها نفسها خاصة في السنوات الأخيرة، وقد كان يمكن التغاضي عن ذلك في مرحلة الانتخابات الرئاسية التي أوصلت مجدداً ماكرون للحكم باعتبار أن المرحلة هي مرحلة انتخابات، لكن بعد أن استقر الوضع الانتخابي والسياسي في فرنسا لم يعد منتظرا منها أن تظل حبيسة موقف كلاسيكي تم تجاوزه من طرف الولايات المتحدة الأمريكية وألمانيا، إسبانيا ودول أوروبية أخرى.
فالجزء الذي خصصه الخطاب الملكي للحديث عن مواقف الدول من ملف الصحراء، لا يجب تحليله دون مراعاة الظرفية الحالية التي تمر منها المنطقة، خاصة العلاقة المغربية الفرنسية، والعلاقة الفرنسية-الجزائرية، مع قرب زيارة ماكرون للجزائر التي يريد منها هذا الأخير أن يكون قائدا لأوروبا وأن يحقق مكاسب في ملفات إفريقية وأخرى مرتبطة بالغاز الجزائري، وهو بذلك ينسى ويتناسى أنه لا يمكنه ولن يمكنه أن ينزع الجزائر من المحور الروسي وامتدادات هذا المحور أوروبياً وغربياً، و إذا راهن على ذلك فرهانه سيكون خاسرا ولن يؤدي فقط إلا إلى إضفاء شرعية سياسية للجنرالات الحاكمين بالجزائر.
ماكرون وهو يستعد لشد الرحال إلى الجزائر لن يكون مقبولا منه أن يصدر بيانا مشتركا مع النظام الجزائري يتحدث فيه «عن تأييد المسار الأممي». هذا الموقف سيجعل من العلاقة المغربية الفرنسية أكثر تعقيدا من ذي قبل، ولن يكون مقبولا من فرنسا ماكرون أن تستمر في التعبير عن مثل هذه المواقف إرضاء للعسكر في الجزائر، فالخطاب الملكي يضع السقف عاليا في العلاقة بفرنسا، وهي علاقة أصبحت اليوم تطرح أسئلة داخل النخب الفرنسية التي انتبهت لهذا الانزياح غير المنطقي لما يُفترض فيه أن تكون علاقة المغرب بفرنسا، وما حوار الاشتراكي فراسوا هولاند سوى تعبير عن هذه الأسئلة المقلقة التي أصبحت تطرحها النخب الفرنسية.
فرنسا ماكرون من حقها أن تتحدث عن المصالح المشتركة مع الجزائر، لكن ماكرون وهو يتحدث عن ملف الصحراء سيضع فرنسا في موقف دقيق جدا، فلم يعد يمكنه أن «يخادع» المغرب بكلام ملتوي حول تأييد قرارات مجلس الأمن، هو مطالب باتخاذ موقف واضح على غرار أمريكا وإسبانيا، وألمانيا..
زيارة ماكرون للجزائر إما أنها ستكون ناجحة في تقوية العلاقة بالمغرب، أو مضرة بالمصالح المغربية الفرنسية،خاصة الفرنسية منها، فالمغرب اليوم هو بوابة العالم نحو إفريقيا، وهو شريك موثوق به من دول لها مكانتها وحضورها الإقليمي والأممي.
الخطاب الملكي كان ذكيا جدا في هذه الإشارة القوية، بحيث استبق كل ما يمكن أن تقوم به فرنسا من مناورة في العلاقة مع المغرب، وهي مناورة ستنهار أمام قوة مؤسسات الدولة المغربية والقيادة الملكية للدبلوماسية المغربية.
3- الجالية في قلب ثورة الملك والشعب
خطاب ثورة الملك والشعب في الفقرة المخصصة للجالية المغربية أبرز قيمة الجالية المغربية المقيمة في الخارج، سواء من حيث المكانة التي أصبحت تحظى بها في الخارج أو مكانتها في صنع القرار في بلدان المهجر، سواء تعلق الأمر بالجالية اليهودية المغربية أو باقي أفراد الجالية المغربية، كما طرح الخطاب ضرورة الاستفادة منها على المستوى الداخلي، خاصة من حيث وضع السياسات العمومية الوطنية، وهو ما يجب أن يطرح السؤال اليوم بشكل واضح: ألم يحن الوقت ليكون في تشكيلة الحكومة المغربية أفراد من الكفاءات المغربية الموجودة بالخارج خاصة من الجيل الثاني والثالث؟ وهي كفاءات لها القدرة لتساهم في تدبير الشأن العام الوطني.
خطاب جلالة الملك كان واضحا في مسألة إحداث آلية لمواكبة الكفاءات المغربية الوطنية المتواجدة بالخارج، وهي آلية تم ربطها بميثاق الاستثمار الذي يجب أن يراعِي وضعية الجالية المغربية، خاصة منها تلك التي لها رغبة في الاستثمار بأرض الوطن مع ما سيوفره المغرب من إمكانيات كبيرة للاستثمار.
الخطاب الملكي طرح مسألة جد مهمة تتعلق بتحديث الإطار المؤسساتي، الذي سيحتضن قضايا الهجرة والمهاجرين بالمغرب، وهنا قد يكون المعني بذلك مؤسسات الحكامة الدستورية التي تحتاج لإعادة التأهيل لمواكبة المتغيرات الجديدة التي سيشهدها ملف المهاجرين بعد هذا الخطاب.
نحن مقبلون على ثورة ملكية كبيرة جدا في مجال تدبير ملف الجالية المغربية، وهي ثورة نحتاج لمواكبتها سواء بالنقاش أوبالعمل الجاد لتنزيل مضامين هذا الخطاب.
الخطاب الملكي يضع أسس ثورة ملك وشعب متجددة، برهانات استراتيجية كبيرة يتقاطع فيها الملف الوطني بملفات أخرى لا تقل أهمية عنه، وهي ملفات كلها ستجعل المغرب قادرا على استكمال مسلسله الذي يقوده الملك.