بقلم: رشيد قنجاع
تعتبر رياضة كرة القدم، الرياضة الأكثر شعبية على وجه البسيطة، بل يمكن الجزم أنها الوجه الأبرز والأكثر كشفا لوجوه العولمة في عالمنا اليوم، وجه حيث تجتمع شعوب العالم على متابعتها في نفس اللحظة رغم اختلاف التوقيت واختلاف الأمكنة على طول وعرض الكرة الأرضية، كما أنها صارت في تطورها من لعبة شعبية إلى فاعل أساسي في مجال الاقتصاد تؤثر في عالم المال والأعمال، كما ظلت عنصر استغلال سياسي واضح من طرف الطبقة الحاكمة تستعملها لأغراض الهيمنة الداخلية، وفي نفس الوقت لأغراض خارجية في علاقة الدول ببعضها.
وشكلت مشاركة المنتخب الجزائري في نهائيات كأس الأمم الإفريقية المنظمة بدولة الكاميرون ومن قبلها المشاركة والفوز بنهائيات كأس العرب، التي نظمت بدولة قطر، فرصة للنظام العسكري بالجارة الشرقية لاستغلالها سياسيا أبشع استغلال، أدهش كل المتتبعين سواء السياسيين أو الرياضيين نظرا لغباوة الاستغلال وعلانيته كاشفا أن الأمر يتعلق باستثمار هاتين المشاركتين للتغطية على واقع حال مأزوم سياسيا، اقتصاديا واجتماعيا تمر به الجزائر، عنوانه الأبرز أزمة النظام السياسي وفشله في كسب الشرعية الشعبية التي سحبها منه الحراك الشعبي الجزائري بشعاره من أجل دولة مدنية لا مكان فيها للعصابة المتحكمة.
ظل كتاب الأمير لميكيافيلي إلى يومنا هذا مرجعا في الفقه السياسي رغم صدوره سنة 1513 وفيه يستطرد كاتبه في باب استغلال الحاكم أاو السياسي لأي حدث وعارض من أجل ترسيخ الحكم وتحقيق السطوة، حيث كتب “ليس أمام الأمير من طريق الى الحكم أو إلى تأسيس الدولة، سوى القوة، ولا مناص أمامه من أن يكون مرنا بما فيه الكفاية ليلتف حول كل عارض يعرض و كل ريح تهب”، إلا أن هذا الاستغلال والاستثمار للأحداث والوقائع ومن بينها المشاركات الكروية على المستوى القاري والعالمي، لما تحقق من جاذبية شعبية متميزة، و قدرة على الاستحواد على مشاعر وعقول الجماهير، يختلف من نظام سياسي إلى آخر تشكل فيه الأنظمة الاستبدادية والعسكرية أبشع أوجه هذا الاستغلال والتوظيف لما يطبعه من غباوة مكشوفة وانتهازية مباشرة ترمي الى تحسين صورة الفرد المستبد الحاكم وزمرته، محولة بذلك الرياضة من وظيفتها العادية إلى آلة إيديولوجية تشتغل إلى جانب باقي الأدوات الأيديولوجية للدولة من إعلام وفن وثقافة … قصد تدجين وكبح إرادة الشعوب ةالالتفاف حول مطالبها و قضاياها.
تشابهت الأنظمة العسكرية الاستبدادية، ومن بينها النظام العسكري الجزائري في صور الاستغلال المفضوح للإنجاز الرياضي، حيث حاول النظام الفاشي الإيطالي بقيادة الديكتاتور موسوليني توظيف فوز منتخب بلاده بكأس العالم سنتي 1934 و 1938 باعتباره إنجازا سياسيا يحسب على موسوليني، الذي سخر كل الوسائل الإعلامية والثقافية والمؤسساتية، للترويج و التأثير في الشعب الإيطالي على أنه بفضل حكمه أعاد أمجاد روما الغابرة. وعلى نفس المنوال صار الجنرال بينوتشي، الذي وصل للسلطة عبر الانقلاب الدموي على النظام الديمقراطي، وما نتج عنه من مقتل سلفادور أليندي، الرئيس المنتخب، حيث فشل في استثمار مشاركة منتخب بلاده في كأس العالم سنة 1974 لمحو صورة الدكتاتورية عنه وإظهار نفسه بصورة الرجل الوطني الغيور على بلاده، إلا أنه من حسنات الصدف أن يؤرخ لهذا الدكتاتور طابعه الدموي من خلال اعتقال أكثر من 40000 بملعب سانتياغو لكرة القدم.
لم يخرج النظام العسكري الجزائري الحالي عن هذه النماذج، ولم يستفد من عبر التاريخ ودروسه، ودروس من سبقه من عسكر بلاده، لأن استغلال المناسبات الكروية بالجارة الشرقية ليس وليد اليوم، فقد تم التخطيط والتنفيذ للإنقلاب على الرئيس الجزائري بن بلة، من طرف كل من هواري بومدين ورفيقه عبد العزيز بوتفليقة، مستغلين متابعة وحضور الرئيس بن بلة لمجريات مقابلة ودية في كرة القدم، كان قد دعا لها بنفسه، كانت بين المنتخب الجزائري ونظيره البرازيلي سنة 1965. كما لم يستفد شنقريحة وتبون من الأزمة مع الشقيقة مصر سنة 2009 ،التي كانت على وشك التحول إلى قطيعة على كل الأصعدة بسبب مقابلة في كرة القدم اشتهرت بموقعة أم درمان، و صارا على نفس المنوال، ولكن هذه المرة مع المملكة المغربية التي تعرف العلاقة بين البلدين أزمة مفتعلة من الطغمة العسكرية الجزائرية، فحولا فوز المنتخب الجزائري على المنتخب المغربي بضربات الترجيح بمناسبة نهائيات كأس العرب بقطر إلى انتصار سياسي وتهييج شعبي وإعلامي سخرت له كل الإمكانيات، و لم يقتصر الأمر فقط على الانتصار، بل تعداه إلى ترسيخ صورة المغرب الدولة المتآمرة على الجزائر التي حسب زعمهم، فهي من أشعلت الحرائق في كل مناطق البلاد، وهي من وراء غلاء الزيت والسكر، وهي من وراء حبك مؤامرات على منتخب بلادهم الأول المشارك في نهائيات كأس الأمم الافريقية الجارية حاليا بالكاميرون، و هم بذلك يعتقدون أنها الفرصة المناسبة والمواتية لكسب ود وعطف الشعب الجزائري والرفع من معنوياته الوطنية، ومناسبة لتجسيد الشرعية الشعبية المفقودة، ومدخل للترويج الخارجي لصورة الجزائر القوة الضاربة من بوابة المشاركة الافريقية.
إلا أن منهجية الغباوة والبلادة السياسية المسيطرة والسائدة في الجارة الجزائرية، أوقعت شنقريحة وتبون في نتائج معكوسة لإرادتهم، أبرزها خروج بلادهم من دور المجموعات خاوي الوفاض، ويرجع السبب في ذلك إلى تحميلهما للاعبي المنتخب الجزائري ما لا طاقة لهم به، مما أثر على أداء منتخبهم رغم جودة اللاعبين و جاهزيتهم، كما طبعا صورة سيئة عن الجزائر، بلد محمد أركون وواسيني الاعرج وأسية جبار و مولود معمري …. إلى بلد الرقاة والسحرة والمشعوذين، و وضعا نفسيهما اليوم بشكل مباشر أمام مطالب شعب لا يمكن الالتفاف حولها ولا يمكن تدجينها بشعبوية بليدة هجينة.
وبذلك تحققت نبوءة إدواردو غاليانو في كتابه كرة “القدم بين الشمس و الظل”.