من المعتاد أن تدبج قصائد الرثاء للشأن الثقافي في بلداننا العربية، لكن عندما تتعالى الأصوات في بلد مثل فرنسا، له مكانته الأوروبية والدولية بفضل كتابه ورساميه ومغنييه وسينماه، لتنتقد السياسة الثقافية في البلاد أو بالأحرى غيابها، آنذاك يصبح الأمر مدعاة للتساؤل.
من بين من أطلقوا صيحات الاستنكار، برز إلى الواجهة اسم جيروم كليمون، هذا الرجل السبعيني الذي يعتبر من الوجوه البارزة في سماء الثقافة الفرنسية من خلال ترؤسه المركز الوطني للسينما والقناة الفرنسية الألمانية Arte وغيرها من المؤسسات والمهرجانات الثقافية.
كليمون ألف كتابا عن السياسة الثقافية في فرنسا في عهد الرئيس السابق نيكولا ساركوزي وخلفه الحالي فرانسوا هولاند، متهما الأول في التسبب في تراجع الحالة الثقافية والثاني في تكريس هذا الوضع.
في حوار له مع مجلة Le nouvel observateur، أطلق كليمون العنان لحالة القلق التي تنتابه بخصوص الوضعية الثقافية في بلاد الأنوار، حيث قال إنه استفاق خلال السنوات الأخيرة على واقع مفاده أن “الثقافة لم تعد في صلب المشروع المجتمعي”، وإنه يريد معرفة السبب.
المدير السابق لمهرجان Musica يريد أن يفهم لماذا تراجعت الأهمية الملاة إلى الثقافة التي كان لا يتم فصلها عن السياسة لدرجة أن الجنرال شارل دوغول قام في سنة 1959 بتعيين الروائي أندري مارلو، وزير الثقافة آنذاك، وزيرا للدولة، أي ثاني وزير من ناحية الأهمية في الحكومة الفرنسية.
إقرأ أيضا: في ذكرى وفاته..مناسبة لتذكر كيف أثر شكسبير في اللغة الإنجليزية
مع ساركوزي بدأت القطيعة، يقول جيروم كليمون، حيث كان المال هو محور الاهتمام. الأوضاع لم تتحسن مع مجيء الاشتراكيين إلى السلطة، إذ استمر النقاش الاقتصادي بالاستئثار بالحيز الأكبر من النقاش العمومي بدعوى الأزمة، رغم أنه ينبغي التساؤل حول الدور الذي يمكن أن تلعبه الثقافة في وقت الأزمة داخل مجتمعات يعرف عددا من التحولات.
الثقافة هي على ما يبدو إحدى ضحايا “انتصار الليبرالية” كما يسميها كليمون، حيث أن هذا الانتصار، في غياب مشروع بديل، سواء اشتراكي أو شيوعي، كان من بين نتائجها أن الفوارق انمحت بين اليسار واليمين.
الهوس الأكبر لدى الدول الأوروبية اليوم، يشرح الفاعل الثقافي الفرنسي، هو إلغاء الدعم العمومي في المجال الثقافي وترك السوق يفرض منطقه، ما جعل أن الثقافة صارت شأنا ثانويا بالنسبة للحكومة الحالية التي قبلت الالتزام بقواعد اللعبة الليبرالية.
الاكتراث الذي يبديه السياسيون للشأن الثقافي أو عدمه في فرنسا هو الذي يحدد ما إذا كانت الثقافة في بلاد الأنوار ستكون بخير أم لا. لذلك ما كان جاك لانغ ليكون أفضل وزير ثقافة في تاريخ فرنسا لو لم يكن فرانسوا ميتران يقف وراءه.
تعاقب ثلاثة وزراء ثقافة في أربع سنوات هو بالمقابل مؤشر بالنسبة لجيروم كليمون أن عقلية عدم الاكتراث هي السائدة، وهو ما يقول الكثير عن السياسة الثقافية في فرنسا كما يراه المدير السابق لقناة Arte.