رشيد قنجاع*
عاش المغاربة قاطبة على إيقاع التناغم والانسجام والتفاعل مع تسارع الأحداث التي عاشتها المملكة طيلة الخمس السنوات الأخيرة. و هي الأحداث والوقائع التي دشنت لتحول واضح في السياسة الخارجية للبلاد أفقيا و عموديا، في العلاقة مع الوضع الشاذ و المتأزم الذي يعرفه الوضع العربي- الغارق في الحروب و المآسي و الخلافات الثنائية والمتعددة، و بروز أدوار للدول الصغيرة جغرافيا و الكبيرة ماليا-، و سواء في العلاقة مع المحيط الإقليمي، الذي تحول بقدرة قادر إلى مركز اهتمام دولي، في ظل مؤشرات اللاستقرار و الاستهداف الممنهج من طرف التنظيمات الإرهابية و انتعاش أدوارها بهذه المنطقة التي صارت مركز جذب لها، و سواء في العلاقة مع القوى العالمية المؤثرة في المشهد الدولي، و كذا من خلال العلاقة مع االبعد القاري، وعودة المملكة للعب دورها على الصعيد الافريقي بروح التعاون و البحث عن المصلحة على قاعدة رابح-رابح، كما لا يمكننا تجاهل العلاقات الثنائية مع كل من اسبانيا و فرنسا و المانيا و أخيرا الجزائر و حجم الجدل الحاصل في كنه هذه العلاقات.
وفي خضم هذا التحول في السياسة الخارجية المغربية، وقف المغاربة على صورة جديدة لمسار دولتهم، جمعت بين المفاجأة و الدهشة و الترحيب، الناجم عن قوة المواقف المغربية من كل قضية تواجه المملكة على الصعيد الدولي، المتسمة بالندية و الصلابة و الثبات على المصلحة الوطنية و ثوابت السياسية الخارجية المغربية المدافعة على مصلحة الدول و الشعوب و سيادتها.
لقد شكل الخطاب الملكي بمناسبة افتتاح الدورة التشريعية لـ 8 أكتوبر 2021 ، إقرارا ملكيا بالتحديات التي تواجه المملكة المغربية، و هو إقرار ينم عن حقيقة و معرفة بخبايا الأمور و في نفس الأمر اشراكا للمغاربة على مستوى الحق في المعلومة، أن بلادنا تتعرض للمؤامرات و التهديدات، و بالتالي أولى الأولويات التي أكد عليها الخطاب الملكي ” تعزيز مكانة المغرب، والدفاع عن مصالحه العليا، لاسيما في ظرفية مشحونة بالعديد من التحديات والمخاطر والتهديدات”.
إن التركيز على مصطلحات من قبيل التحديات و المخاطر و التهديدات، لم تأت من قبيل الصدفة، بل كانت موجهة للشعب المغربي قصد الاطلاع على الوضعية العامة التي تمر بها المملكة وما يفرضه عليها و علينا هذا الوضع من تعبئة داخلية وإنجاح جماعي للمسلسل الديمقراطي، وتفعيلا وتنزيلا للنموذج التنموي الذي على أساسه ستتحقق الكرامة و العدالة، و في صلبها الدولة الديمقراطية الاجتماعية، كمدخل أساسي لربح الرهان والتحديات، وصد كل المحاولات الميؤوس منها التي تستهدف الوحدة الترابية و الوطنية.
طيلة خمس سنوات الأخيرة، شدد المغرب استراتجيته بلغة صريحة و واضحة في اتجاه تحصين وضع المملكة على الصعيد الإقليمي و الدولي، في ظل عالم من المتغيرات العميقة والصراعات الدولية البارزة بين القوى العالمية الكبرى وعلى رأسها الصراع الأمريكي الصيني، الأمريكي الروسي، الأمريكي الأوروبي، و التحولات التي يعرفها الاتحاد الأوربي بعد الخروج البريطاني منه و صعود الخطاب اليميني المعادي للهجرة و الداعي للانكماش داخل الحدود الوطنية التقليدية، وما عكسه هذا الوضع الدولي من تحول للعديد من الدول وخاصة في الشرق الأوسط وشبه الجزيرة العربية وشمال افريقيا و آسيا إلى ميدان يعكس حجم هذا الصراع في كل من سوريا واليمن والعراق ومالي والسودان وليبيا ولبنان وأفغانستان، والتطورات الخطيرة في كل من بحر الصين الشرقي والجنوبي، وكذا وضوح الأطراف الدولية في الأزمة الأذربيجانية-الأرمينية، كلها محطات تعكس بالملموس صراعات القوى الكبرى و البحث عن تموقعات جيوستراتيجية جديدة من أجل تركيع كل طرف للآخر، تحافظ فيه الولايات المتحدة الأمريكية على موقعها المتقدم عالميا في مقابل بروز مؤشرات على تقدم صيني مرتقب قد يهدد المصالح الاقتصادية و الاستراتيجية الأمريكية.
وتثبيتا لاستراتيجية تعزيز مكانة المملكة المغربية على الصعيدين الداخلي والخارجي، عمدت المملكة إلى اتخاد قرار وطني سيادي في يناير من سنة 2020 عبر مصادقة البرلمان المغربي عليه، و يتعلق الأمر بترسيم الحدود البحرية المغربية من طنجة للكويرة، بما فيها الحدود البحرية المتاخمة لجزر الكناري، والتي شكلت العنصر الخفي في الأزمة المغربية الإسبانية لما تحتويه المنطقة، حسب تقارير صحافية، إلى وجود جبل “تروبيك” البركاني، المكتشف على بعد كيلومترات من السواحل المغربية التي شملها الترسيم، والمحتوي على حجم كبير من المعادن النفيسة على عمق 1000 متر تحت سطح البحر، و احتياطيات هائلة من المعادن والغازات والثروات الطبيعية، من أبرزها التيلوريوم والكوبالت والنيكل والرصاص والفاناديوم والليثيوم، وهي عناصر تستخدم في صناعة بطاريات السيارات الكهربائية واللوائح الشمسية والهواتف الذكية.
كما عمدت المملكة طيلة الخمس السنوات الأخيرة على ترسيخ مبدأ التعاون جنوب-جنوب ، من خلال العودة المغربية للاتحاد الافريقي في يناير من سنة ،2017 معززة بذلك مكانتها داخل القارة الافريقية، و هنا لا بد للإشارة إلى أن هذه العودة ترافقت بزيارة الملك للعديد من الدول الافريقية، حيث عقد إبانها العديد من الاتفاقيات الثنائية في مجالات التعاون الاقتصادي والمالي والاجتماعي والسياسي. و حسب ما كشف عنه المعهد الملكي للدراسات الإستراتيجية، فإن العاهل المغربي قام بـ48 زيارة رسمية إلى الدول الإفريقية خلال 18 عاما، شملت العديد من دول منطقة الغرب، وكذا شرق وجنوب القارة الإفريقية، جعل مجال الحضور المغربي يمتد ليشمل منطقة واسعة من القارة الإفريقية، وهو ما أسفر عن نتائج سياسية كبيرة تمثلت في افتتاح 25 قنصلية بكل من العيون و الداخلة، أغلبها من دول القارة الافريقية بما يشكل ذلك من اعتراف صريح و علني بالسيادة المغربية على صحرائه.
واجهت الدولة المغربية بحنكة عالية دبلوماسيا وسياسيا وشعبيا ولا زالت، كل التهديدات و الهجومات التي تستهدف المؤسسات الوطنية قصد إضعافها و معها إضعاف المسار التصاعدي للادوار التي تلعبها، ويمكن أن تلعبها مستقبلا المملكة المغربية على الصعيد الإقليمي و الجهوي، و كانت المؤسسة الأمنية من بين هذه المؤسسات المستهدفة لما صارت تحققه من إنجازات و مهام و نجاحات على الصعيد الدولي في مجال محاربة الإرهاب و الاتجار في البشر و المخدرات، جعل منها شريكا امنيا موثوقا مع غالبية دول العالم.
وشكل الإبقاء على وزير الخارجية و التعاون المغربي ناصر بوريطة في التشكيلة الحكومية الجديدة المنبثقة على الانتخابات التشريعية لـ8 شتنبر 2021، رسالة سياسية لجيراننا و شركائنا و أعدائنا و للمنتظم الدولي، بأن المغرب مستمر على نفس نهج الدفاع على مصالحه وعلى قضاياه العادلة بكل مسؤولية، وعلى قاعدة احترام سيادة الدول وعدم التدخل في شؤونها الداخلية مهما حاولت بعض الدول جر المغرب إلى تغيير نهجه، و أنه رغم امتلاكه لشبكة قوية من العلاقات الواسعة والقوية، و التي تحظى فيها المملكة بالثقة و المصداقية، يبقى المغرب دولة اليد الممدودة للتشاور والتفاعل وإيجاد الحلول في ظل قواعد تعامل جديدة تحترم القرار والتدبير السيادي للدولة المغربية، التي ستمثل منطلقا غير مسبوق لتدشين مرحلة جديدة على أساس الاحترام المتبادل و الثقة و الشفافية.
* باحث في شؤون الصحراء