بابا الفاتيكان في المغرب. الملك محمد السادس يستقبل بابا الفاتيكان. هذا هو حدث الأسبوع الماضي بامتياز. الحدث الرمزي السياسي والاستراتيجي الكبير في مجرياته العملية، في سياقه السياسي التاريخي، في بعده الديني الفكري وفِي رسالته الإستراتيجية الشاملة. الحبر الأعظم، رئيس الكنيسة الكاثوليكية، فرنسيس يلتقي أمير المؤمنين ورئيس لجنة القدس ملك المغرب محمد السادس. لقاء على هذا المستوى، حتى ولو لم يكن غير لقاء مجاملة، لكان حدثا استثنائيا وكبيرا، فكيف به وهو لقاء مسؤولية وعمل ورسم خارطة طرق التعايش والتسامح بين الديانات السماوية وتحديد بوصلة للعمل المشترك بينها، في سياق تاريخي استثنائي يحاول فيه التطرّف والإرهاب القضاء على قيم التسامح والعيش المشترك ومواجهة التحديات الحقيقية، وليس افتعال الزائفة منها لتبرير التطرّف والإرهاب في مختلف أشكالهما وتجلياتهما.
إن زيارة بابا الفاتيكان للمغرب ولقاءه مع عاهل المغرب تشكل منعطفا نوعيا، أساسه الحكمة القيادية ووازعه ترسيخ قيم التسامح وهدفه الإنخراط المسؤول في عملية حضارية تاريخية ومتقدمة واحدة، هي محاربة الإرهاب باعتباره عدوا للإنسانية جمعاء. ذلك أن الإرهاب يدمر أسس التعايش بين الشعوب ويقضي على تطلع القوى الحضارية في العالم إلى العيش في سلام وطمأنينة ويمنع من إقامة جسور التفاهم بين أصحاب الديانات والمذاهب الإنسانية العريقة في التاريخ والمشرئبة دوما إلى المستقبل المشرق للجميع ومن إسهام الجميع.
ولعل العنصر الأساسي الذي يشكل الإسمنت الرابط بين الخطاب وبين الواقع هو الإنخراط المغربي الملموس في الحرب على الإرهاب، بكل ما يملك من مخزون فكري وديني، وهو استثنائي، من جهة، وما يتوفر عليه من قدرات أمنية ومن مقاربة استباقية قادرة على إحباط مخططات إرهابية داخل الوطن، والمساهمة في كشف الكثير منها في مختلف مناطق العالم من جهة أخرى.
وليس هناك أدنى شك أن هذا العنصر قد جعل المغرب في قلب الحرب على الإرهاب، الأمر الذي جعله محط احترام كل القوى المحبة للسلام، المدافعة عن قيم التعايش بين الديانات والحضارات والمذاهب ضدا على مناهضي هذه القيم النبيلة والذين يتوسلون مختلف أشكال الإقصاء والإرهاب لتحقيق مآربهم غير الإنسانية، حتى ولو حاولوا، عبثا، إلباسها لبوسا دينيا أو حضاريا أو غيرهما من اليافطات التي تتم بها محاولة التستر على حقيقة مراميها المعادية للإنسانية.
وهذا هو المغرب الذي جاء الحبر الأعظم لزيارته ولقاء عاهله الذي لم يخف قط تشبثه بقيم التسامح والتعايش والإلتزام بثوابت المملكة الذي لا يتزعزع بما يحمي هذه القيم ويعززها ويطورها ويرتفع بها دوما إلى ما هو أرقى وأسمى.
وهذا ما يضفي الطابع التاريخي الاستثنائي على تداء القدس. إذ ان هذا النداء الموقع من قبل الحبر الأعظم البابا فرنسيس وجلالة الملك محمد السادس هو الجواب الحضاري القوي على قوى التطرّف التي تحاول تسخير المقدسات الدينية لخدمة أهداف سياسية واستراتيجية متعارضة مع روح الديانات السماوية جميعها، علاوة على قرارات الشرعية الدولية ذات الصِّلة بهذه المدينة ذات الطابع الخاص والاستثنائي في العالم ماضيا وحاضرا.
إنه جواب على مساعي الكيان الإسرائيلي الذي ينفذ سياسات التهويد المتواصل للقدس المحتلة عبر مصادرة أراضي الفلسطينين العرب المسلمين والمسيحيين وبناء مستوطنات لا شرعية بحكم القانون الدولي واتفاقية جنيف الرابعة التي تجرم تغيير المعالم الجغرافية أو السكانية للأراضي المحتلة من قبل دولة الإحتلال. كما أنه فضح قوي لخيانة الكيان الإسرائيلي لمباديء اليهودية التي يزعم أنه يمثلها ويتحدث باسمها.
وهو جواب قوي وواضح على الإدارة الأمريكية التي ضربت عرض الحائط بالقانون الدولي من خلال الاعتراف لإسرائيل بالسيادة على القدس المحتلة، واعتبارها عاصمة أبدية للدولة العبرية. وهو قرار سبق للملك محمد السادس أن أعلن رفضه له وتحذيره من مغبة مثل هذا السلوك المتعارض مع الشرعية الدولية ومختلف مواثيق وقرارات الأمم المتحدة.
وهو جواب على كل من يحاول استغلال الطبيعة المقدسة للمدينة لخدمة أجندات، لا تتلاءم مع هذا الطابع بالذات، من حيث كونها مدينة السلام والتسامح والتعايش.
لذلك حظي هذا الإعلان بترحيب دولي واسع، سواء من قبل الدول أو من قبل المجموعات الدولية والمؤسسات المختلفة التي رأت فيه إصرارا على دعم وتعزيز عوامل الانفتاح والتقدم في وجهة حضارية تضع نصب عينها ما يجمع ويوحد، وليس ما يفرق ويشتت الجهود الإنسانية في خدمة الإنسانية ذاتها.
لقد فرض حدث زيارة البابا للمغرب وتوقيعه مع العاهل المغربي لنداء القدس نفسه على كل اللقاءات التي تزامنت معه أو جاءت بعده، على مختلف الأصعدة الثنائية أو الجماعية. وفِي هذا السياق، فإن دعم إعلان تونس الصادر عن القمة العربية لنداء القدس مؤشر لا يخطيء على أن القدس قد دخلت منعطفا جديدا بهذا النداء التاريخي، منعطف المسؤولية والإصرار على إحقاق الحق وإعادة الأمور إلى نصابها.