حسم العسكر خياره في مواجهة الوضع الناجم عن انتفاضة الشعب الجزائري، من أجل التغيير. تدخل العسكر لتحديد مسار هذه الانتفاضة وحصر نتائجها السياسية في مآل الرئيس بوتفليقة من خلال تفعيل المادة 102 من الدستور التي تفصل في مسألة عجز الرئيس وشروط الإعلان عن شغور منصب الرئاسة والإجراءات المرتبطة بذلك، بما فيها من يتولى رئاسة البلاد والأجل الذي ينبغي فيه تحديد توقيت وإجراء انتخابات رئاسية جديدة.
إن تفعيل هذه المادة من قبل المؤسسات الدستورية المعنية ( المجلس الدستوري أو البرلمان على سبيل المثال) أمر طبيعي، غير أن الجهة التي دعت إلى اعتماد تلك لا تملك أي صلاحية شرعية أو دستورية في هذا المجال.
صحيح أن المعارضة قد دعت الجيش إلى تحديد موقفه من الحراك الجماهيري، التي تعرفه البلاد منذ أكثر من خمسة أسابيع، غير أن القصد من الدعوة ليس التدخل لتحديد ولجم مسار التغيير في البلاد، وإنما الإنحياز الواضح والصريح إلى جانب الشعب عن طريق رفع اليد، والتخلي عن الذين كانوا، إلى الأمس القريب، ضالعين في الاستبداد والفساد، والذين طالبهم الشعب بمختلف فئاته بالرحيل عن الحكم وإقامة نظام ديمقراطي متقدم، يستجيب لطموحات الشعب ويسخر ثروات الجزائر الهائلة في خدمة أبنائها جميعا وليس احتكار المجموعة الحاكمة لهذه الثروات وتبديدها في ما لا يعود على البلاد بالخير المطلوب. والحال، أن تدخل رئيس الأركان أحمد قايد صالح لا يصب في اتجاه التغيير المنشود، وإنما يدخل في سياق منطق إنقاذ ما يمكن إنقاذه، من الطبقة السياسية التي استلمت السلطة منذ عشرين عاما وظلت تتستر وراء الرئيس بوتفليقة إلى آخر لحظة. وبالتالي فإن هذا التدخل لا يرمي إلى شيء آخر غير التمديد من عمر نظام سياسي أعلنت الجماهير رفضه وعدم استعدادها للتعايش معه إلى ما لا نهاية.
فما هي رهانات قيادة الجيش الجزائري الحالية؟ وما هي حظوظها في انتزاع المبادرة من الحراك الجماهيري؟
هناك رهانات مباشرة وأخرى غير مباشرة، يشرط بعضها البعض الآخر.
بل يمكن القول، دون أي مجازفة، بأن المباشرة منها هي محاولة لتمرير الإخراج الراهن بأنه دستوري محض، ولا علاقة له بأي شيء خارج تفعيل الدستور. ذلك أن تمرير مثل هذا الإخراج يغطي، ولو إلى حين، وهذا هو القصد، على واقع أن الجيش هو الذي يحرك اللعبة السياسية من قبل، وليس مستعدا للتخلي عن دوره المهيمن على الحياة السياسية، من بعد. بما يعني أن الحراك الجماهيري لا ينبغي أن يتجاوز مستوى كونه نوعا من الجملة الاعتراضية ضمن نص عسكري في مختلف ما ينطوي عليه ما بين سطوره. ولعل التلويح بيافطة تفويت الفرصة على أعداء الداخل والخارج ليس، في واقعه، إلا تحذيرا من الجيش للشعب الجزائري من الاستمرار في التظاهر وحرصا من قيادة الجيش على تأكيد استعدادها لكل الاحتمالات بما في ذلك مواجهة هذا الحراك بعد إمكانية شيطنته تحت تلك اليافطة إياها.
وفِي كل الأحوال، فإن تدخل قيادة الجيش بهذه الطريقة تعني أنها راغبة في مرحلة انتقالية طويلة نسبيا لاستكمال استعداداتها لتنصيب من ترغب فيه على رأس الدولة، وفِي مختلف مؤسساتها، وأن كل محاولة لعرقلة هذا المسعى، الذي تحاول أن تقدمه بلبوس دستوري، لن يتم التساهل معها. وإلا ما معنى تحديد خارطة الطريق لجميع مؤسسات الدولة من قبل قائد الجيش بالذات، إن لم يكن التعبير عن جاهزية هذا الأخير لمصادرة أدوار تلك المؤسسات علنا، بعد أن كانت تجري وراء الستار؟
وماذا جرى حتى يتخلى عن خارطة طريق قدمت للشعب بأنها خارطة للخروج من الأزمة ومن وضع الرئيس بوتفليقة والتي كان احمد قايد صالح في مقدمة المدافعين عنها والساهرين على تنفيذها؟.
فكيف تعاملت الطبقة السياسية الجزائرية مع هذا المسعى الواضح من قيادة الجيش للالتفاف على الحراك الجماهيري وتجيير نتائجه لصالحها؟
يمكن رصد اتجاهين أساسيين في هذا المجال، تؤدي غلبة أي منهما إلى نتائج مخالفة لغلبة الإتجاه الآخر. غير أن عنصرا أساسياً يجمع بينهما، وهو أن الحراك الشعبي قد بدأ يعطي أكله، هذه المرة، خارج الترتيبات المسبقة للجيش ومجموعة الحكم التي أعلنت تخليها عن الرئيس بوتفليقة، وهو موقف لم يكن ضمن الاحتمالات المطروحة على الساحة قبل أسبوع فقط. لكن تسجيل هذا العنصر المشترك ليس إلا منطلقا جديدا للانخراط في مسارات متباينة أشد التباين، مما قد يؤدي إلى الإصطدام الجزئي أو الكلي بينها.
أولا، الإتجاه الذي يعتقد ان قايد صالح قد وقع على الحل، الذي يخرج البلاد من الأزمة، وأن اعتماده هو الممكن، في الوقت الراهن، لأنه يقوم على أساس دستوري قوي، وبالتالي، فإن رفضه قد ينزلق بالبلاد إلى ما لا تحمد نتائجه بالنسبة للوطن.
وطبيعي ان داعمي مثل هذا التأويل هم أنفسهم الذين كانوا ضمن مجموعة النظام الضيقة، أو ممن لم يدركوا أبعاد المناورة التي لجأت إليها القيادة العسكرية لتظل ممسكة بزمام الأمور في البلاد من خلال إيقاف مسلسل التغيير الجذري للنظام الذي أشرت عليه المسيرات السلمية التي تصرفت كما لو أن هذا النظام في حكم الماضي.
الإتجاه الثاني ويبدو أنه الاتجاه الأغلبي يمثله الحراك الشعبي بمختلف تجلياته ويقوم على العناصر الأساسية التالية:
أولا، إن خروج الشعب بالشكل الذي قام به ليس غير التعبير عن رفض أي مساومة حول هدف التغيير الجذري للنظام وليست خرجة قائد الجيش إلا محاولة لكبح طموح الحراك في تحقيق هذا الهدف.
ثانيا، إن المادة 102 من الدستور كان ممكنا اللجوء إليها، منذ مدة طويلة، خاصة عندما خرجت الجموع إلى الشارع، رفضا للعهدة الخامسة لرئيس عاجز عن أداء مهماته الرئاسية بشكل واضح، منذ أمد بعيد. وليس عدم اللجوء إلى هذه المادة إلا رغبة حقيقية من الممسكين بزمام الحكم لإدامة الوضع على ما هو عليه، مراهنين على تراجع التعبئة الشعبية مع مرور الأيام. إلا أنهم اصطدموا بإرادة شعبية لا تلين أدت إلى تفكك ملموس في أحزاب الإئتلاف الحاكم ذاته، فكان لا بد من اعتماد حيلة دستورية لتحقيق ما لم يكونوا قادرين على تحقيقه في رهانهم على تعب الشارع وتراجع الحراك السياسي.
ثالثا، إن ما يثير أكثر من شبهة، في هذا التحرك الأخير للمجموعة الحاكمة هو تصدر قيادته من قبل الجيش في تصرف أقل ما يقال فيه إنه إصدار لتعليمات عسكرية لمؤسسات دستورية هي، من حيث الوضع الدستوري، مستقلة عن الجيش بل إن الجيش هو الذي عليه أن يخضع لقراراتها وليس العكس. وهذا الوضع هو الترجمة الفعلية على أن الجيش قد قاد انقلابا فعليا تحت غطاء الدستور لتحقيق مأربه الرئيسي وهو الإستمرار في احتلال موقع الآمر الناهي في الجزائر ضدا على الدستور وضدا على إرادة الشعب معا.
وبطبيعة الحال، فإن الإتجاه الرافض للتخريجة العسكرية الجديدة لن يستستلم بسهولة أمام العسكر خاصة أن قيادة هذا الأخير قد تعرف تصدعات سريعة إذا استمر الحراك الجماهيري الشعبي على زخمه وما إعلان رئيس الاستخبارات العسكرية الجزائرية عن استقالته من منصبه بعد قرار قايد صالح اللجوء إلى المادة 102 من الدستور في التعامل مع الأزمة إلا مؤشرا ربما على بداية هذا التصدع المحتمل.