لم تثمر مظاهرات الشعب الجزائري، خلال أكثر من أسبوع، في مختلف ولايات ومدن البلاد، إيقاف مسلسل ترشيح عبد العزيز بوتفليقة لولاية خامسة رغم وضع العجز الصحي الذي هو عليه، منذ سنوات عديدة. ولَم يتم الأخذ بعين الإعتبار شعارات المتظاهرين، الداعية إلى العدول عن ترشيحه؟ وفك أسره والتوقف عن استخدامه، لتحقيق غايات شخصية ومصالح ضيقة، لا علاقة لها، من قريب أو بعيد، بالمصالح العليا للشعب والبلاد.
التغيير الوحيد الذي رافق تلك المسيرات الشعبية، التي وصفت بالحضارية وبالقوية من قبل مختلف الأوساط السياسية الجزائرية، ومن قبل المراقبين من مختلف أنحاء العالم، هو إبعاد عبد المالك سلال عن رئاسة حملة المرشح المرفوض شعبيا، وتعيين عبد الغني زعلان لإدارة هذه الحملة التي لن تكون، في الواقع حملة حقيقية، لإدراك الجميع بأن أمر الرئاسة أصبح مقضيا لدى صناع القرار في البلاد. ولأن عملية ترشيح عبد العزيز بوتفليقة لولاية خامسة ليست غير عملية ” خرافية” من قبل قوى غير دستورية، بالأساس، على حد تعبير علي بن فليس الذي أعلن مقاطعته للرئاسيات، لهذا السبب بالذات، كما قال في ندوة صحفية عقدت يوم الأحد ثالث مارس لهذه الغاية.
وفعلا، قدم رئيس الحملة الإنتخابية الجديد عبد الغني زعلان ملف ترشيح الرئيس شبه الأبدي عبد العزيز بوتفليقة إلى المجلس الدستوري، ليحسم الأمر، بعد أن حبس الشعب الجزائري أنفاسه، خلال اليومين الأخيرين، ترقبا لما سيحدث، وكيفية استجابة السلطة القائمة مع تحركات الجماهير التي كانت شعاراتها قاطعة في وضوحها، برفض العهدة الخامسة، تحت أي مبرر من المبررات.
ولَم يكتف زعلان بتقديم أوراق ترشيح الرئيس، الذي لم يغادر بعد جنيف بعد رحلته العلاجية الأخيرة، بل أرفق الترشيح المثير للجدل بتلاوة رسالة منسوبة إلى بوتفليقة، ليست أقل إثارة للجدل.
وفِي الواقع، فإن الرسالة ليست، في جل فقراتها، غير وعود مكرورة من الرئيس المنتهية ولايته، على افتراض كونها رسالة منه، لتغيير مختلف أوضاع البلاد، بما في ذلك، هذه المرة، وربما هذا هو الجديد الوحيد ضمن تلك الوعود، تغيير النظام السياسي القائم، في غضون سنة واحدة والدعوة، في حال تجديد انتخابه لولاية خامسة، إلى انتخابات رئاسية سابقة لأوانها، لن يكون مرشحا فيها. أي بكلمة، تخصيص السنة التي تلي انتخابات الثامن عشر من أبريل لعقد ندوة وطنية شاملة ومستقلة تضع أسس النظام الجزائري الجديد، وتحدد موعدا للإنتخبات الرئاسية، وتبلور القواعد الأساسية لدستور جديد للبلاد يتم استفتاء الشعب عليه لإقراره، بما يؤمن خلافة سلسة للرئيس وانتقال السلطة إلى الأجيال الجديدة، كما وعدت الرسالة المنسوبة إلى بوتفليقة.
لكن يبدو أن الرسالة التي أريد بها إيقاف حركة المظاهرات والمسيرات السلمية للجزائريين الراغبين في طَي صفحة التلاعب بالإنتخابات، والتستر وراء رئيس لا يد له في كل ما يجري على أرض الواقع منذ مدة ليست بالقصيرة، لم تجد الآذان الصاغية، التي كانت السلطة ترغب فيها، لدى الجزائريين. إذ خرجوا في مظاهرات ومسيرات ليلية لتعلن رفضها لهذه المسرحية الهزلية سيئة الإخراج والبعيدة، كل البعد، عن الفهم الحقيقي لرسالة الشعب الجزائري.
ولعل القراءات الممكنة للرسالة المنسوبة إلى السيد بوتفليقة لا تخرج عن إحدى القراءتين التاليتين:
القراءة الأولى، إدراك الطغمة الحاكمة الفعلية بأن زمن التلاعب، إلى ما لا نهاية بمصالح البلاد، وتسخيرها لخدمة المصالح الشخصية، لأجنحتها المتحكمة في السلطة، قد بلغ نهاياته بشكل حاسم لم تكن تتوقعه، وخاصة بهذه السرعة، لذلك فهي تراهن على تمكينها من مهلة سنة إضافية، حتى تستكمل تحضيراتها، لما بعد بوتفليقة، وبالطريقة التي لا يشوش عليها فيها أحد تنفيذ خططها المرسومة مسبقا، أو بلورة ما لم يتم إنجاز بلورتها منها بعد.
القراءة الثانية، عدم إدراك المجموعة الحاكمة لأبعاد تحرك الشعب الجزائري الشامل، الذي أذهل العالم بأجمع، ليس لكسره الحاسم لجدار الخوف فحسب، وإنما أيضا ببلورة شعار المرحلة الملائم وهو: القطع النهائي مع نظام أساء، بصورة جوهرية، للثورة الجزائرية وسمعتها في البلاد وخارجها، ووضع اليد بشكل استئثاري على كل المرافق الحيوية الإقتصادية والسياسية الدستورية وغير الدستورية في البلاد، منذ عقود طويلة آن لها أن تنتهي. ولعل ما يرجح كفة هذه القراءة الارتباك الذي التي لوحظ على مستوى سلوك وتصريحات المسؤولين السياسيين والعسكريين في البلاد، خاصة منها المراوحة بين تمجيد الحراك السياسي والمظاهرات التي عرفتها البلاد وبين التهديد بالضرب بيد من حديد على ذوي الأجندات المناوئة للثورة والإستقرار في البلاد.
غير أن انطلاق المظاهرات الرافضة لترشح بوتفليقة من جديد قد جاءت لتؤكد أن عدم إدراك طبيعة رسالة الشارع الجزائري المنتفض، لن يؤدي، في الواقع، إلا إلى تعميق أزمة النظام القائم، لأنه سيجد نفسه أمام خيارين لا ثالث لهما:
إما الإستجابة للمطلب الرئيس للجماهير والتخلي عن ترشيح بوتفليقة، بشكل نهائي، مع ما يشكله هذا من اعتراف بالهزيمة التي تمت محاولة تجنبها من خلال ما تم اقتراحه من إجراءات خلال السنة المقبلة إذا تم التجديد للرئيس. وهذا ليس سهلا بالنسبة لنظام سوق نفسه دائما باعتباره صانع الانتصارات المطلقة في مختلف المجالات.
وإما عدم التراجع، واتخاذ قرار المواجهة مع المتظاهرين وقمع مسيراتهم. وهذا يحمل في طياته مخاطر كثيرة، لا يمكن أن تكون خافية على المجموعة الحاكمة التي أصبح يشار إليها بالإسم، في مختلف الأوساط الجزائرية حيث يمكن القول: إن هامش مناوراتها قد ضاق كثيرا لا سيما بعد ما تبين للقاصي، قبل الداني، كونها الحاكمة الفعلية، وأن الرئيس لا يمثل أكثر من واجهة، لهذا الحكم الفئوي الضيق.
والسؤال المطروح بشدة الْيَوْم هو: هل ستجرؤ القيادة الجزائرية على مواجهة شعب أعزل إلا من إرادته القوية، وتصميمه على التغيير السياسي الجذري لنظام يعتبره فاسدا وغير شرعي بكل المقاييس؟
لا أحد يملك الجواب النهائي لهذا السؤال، إلا الجهة الممسكة بزمام السلطة في البلاد، وهي لا تملك متسعا كافيا من الوقت للحسم في أي الخيارين ستتجه. فالرئاسيات على الأبواب، ولا مجال لهدر المزيد من الوقت في أي تفكير يبتعد عن قراءة حقيقة المشهد السياسي الجماهيري الذي يغلي بكل المعاني. ولا يقبل المزيد من المماطلة والتسويف.