بقلم: الدكتورة راضية الدباغ*
وسط اهتمام إعلامي واسع، تنعقد اجتماعات مجلس الأمن حول ملف الصحراء المغربية، وما سوف تسفر عليه مسألة لها اعتبار سياسي مميز في فكر الملك محمد السادس، الذي يضع اليوم قادة دول مجلس الأمن الدولي، والتي لها مواقف سياسية ودبلوماسية قوية مؤيدة للأطروحة المغربية لحل نزاع الصحراء، أمام ضرورة استبيان الكثير من الوضوح في مواقفها من ملف الصحراء. وهي المسألة التي تتزامن مع التحركات الديبلوماسية الجزائرية التي بدأت تطرق أبواب الجوار الأوروبي والإقليمي للضغط مرة أخرى على مسار القرارات داخل مجلس الأمن بخصوص هذه القضية التاريخية التي لم يستطع الوسيط الأممي دي ميستورا، أن يتجاوز بها سقف تدبير الأزمة وتهدئة الأجواء الساخنة بين الأطراف عبر القيام بجولات لتوثيق مواقف أطراف هذا النزاع المفتعل حول الصحراء، والذي يبقي على محورية الطرف الجزائري في معادلة الصراع، هذه الأخيرة التي ترفض الجلوس إلى طاولة المفاوضات وسياسة الموائد المستديرة وتكتفي بالدفع بالجبهة الانفصالية إلى التصعيد، وعرقلة أي حل سياسي وواقعي وعملي ودائم، ومتوافق في هذا النزاع المفتعل.
سياق يدفعنا للتساؤل عن خطوط الإرتكاز القوية التي يدخل بها ملف الوحدة الترابية اليوم باحة مجلس الأمن بكل أريحية؟ وكيف استطاع المغرب أن يمضي بعيدا عن كل محاولات الضغط والابتزاز التي كانت تمارس عليه أحيانا والتي تتصادف واجتماعات مجلس الأمن حول قضية الصحراء؟
المحور الأول: المكاسب السياسية للمغرب من ملف الصحراء
لقد ثمن المغرب تواجده الشرعي بالصحراء المغربية، عبر اعتماد سياسة فتح القنصليات أمام الدول التي تعترف بسيادة المملكة على الصحراء، وتأكيد الأمر على أرض الواقع من خلال خطوات قانونية فعلية بالأقاليم الجنوبية.
وهو تطور جدي في موقف العديد من الدول من النزاع المفتعل وبداية مرحلة فرض واقع جديد، قوامه اعتراف دولي متزايد بمشروعية مبادرة الحكم الذاتي، وهو مؤشر إيجابي يفضي إلى عزم المغرب المضي في استراتيجية لا رجعة فيها، قوامها الإنفتاح والعمل المتبادل والوضوح وفي نفس الوقت الطموح في بناءه لهذه العلاقات المتعددة الأطراف في سياساته الخارجية، حيث عمل في الفترة الأخيرة على وضع النقط على الحروف فيما يخص علاقاته الثنائية البين دولية، وهو تغيير يساير التطورات التي عرفها ويعرفها المغرب في الآونة الأخيرة، فمغرب الألفية الثالثة يختلف جذريا عن ما قبله، وهو توجه بلورته وسعت إليه السياسة المغربية الرامية إلى تنويع وتعميق المبادلات الإقتصادية والرقي بها إلى مستوى العلاقات السياسية الجيدة لتكون متكيفة مع المناخ الجيوسياسي الدولي ومتغيراته، وهي بادرة أدت إلى تحصين المكتسبات وتعدد الشركاء الاستراتيجيين وخدمة مصالح المغرب.
كما أن النهج المغربي الجديد في السياسة الخارجية المبنية على الوضوح، جاء كرد فعل طبيعي على التذبذب الذي أبان عليه حلفاء المغرب في قضية الصحراء ومصالحه الإقليمية، المسألة التي دفعت المغرب إلى تبني منهجية جديدة براغماتية في خياراته الدبلوماسية، تقاطِع الولاء للأحلاف التقليدية وتجعل معيار المصلحة ضابطا لسياسته الخارجية. وبالتالي فالشراكات الجديدة والمصالح المتبادلة، توجه يحسب لصالح الدبلوماسية المغربية التي ركزت لسنوات على تطوير نشاط سياسي واقتصادي مكثف لتعزيز الإشعاع الدولي للمغرب، وتوطيد موقعه كفاعل إقليمي على المستوى الإفريقي والمتوسطي والعربي والإسلامي، وتحصين مصالحه الاستراتيجية وتوسيع دائرة تحالفاته وشركائه، خاصة في إفريقيا وخارج أوروبا، كالصين والهند وروسيا.
المسألة التي شكلت رسالة للعالم لتبين حجم الخطوة المهمة التي قام بها المغرب بخصوص وحدته الترابية، وبأن المغرب تغير نحو الأفضل والمفيد من الالتزام بالعلاقات الثنائية، وأنه اعتبر بدروس عمقت وعيه وسجلها خلفية لتحركاته في علاقاته مع دول العالم. والأمر يعود إلى أن المغرب من الدول التي عانت بشكل كبير من هيمنة لعبة المقايضة على القضايا الدولية وتأثرت منها سياسته الخارجية، حيث انتقل فيها المغرب من موقف امتصاص الصدمات الخارجية والمساومات الأجنبية إلى القيام بردود فعل حادة وصارمة وهجومية تجاه المساومات. فكان أن اتخذ المغرب عدة قرارات في هذا الشأن، كانت ذات طبيعة استباقية من ضمنها الاعتراف بالمعارض الفنزويلي والرئيس المؤقت خوان غوايدو سنة 2019، وقطع العلاقات الدبلوماسية مع إيران على إثر بعض الأنشطة العسكرية التي قام بها حزب الله لصالح البوليساريو.
ويمكن أن نعتد في هذا الإطار بكيف أن الرباط فرضت على إسبانيا نسقا دبلوماسيا مرتفعا، جعلها تستبدل المساومة والابتزاز بدبلوماسية مرنة واعتبارية وأكثر اتزانا تجاه المغرب. وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن مصالح المغرب العليا تبقى هي المحرك لعلاقاته وهي رسالة موجهة لكل من يوجد في نفس الوضعية.
المحور الثاني: المغرب أصبح نموذجا قياديا وقوة صاعدة بإفريقيا
لقد كان لعودة المغرب للاتحاد الإفريقي منحيان جيوسياسي وجيو استراتيجي، استفاد منهما المغرب لفرض سياسته وتعزيز موقعه الدولي انطلاقا من منصة إفريقيا التي تفتقد لنموذج قيادي وقوة صاعدة وهو ما يتوفر في المغرب دون غيره من دول القارة السمراء المنشغلة بأزماتها المختلفة. كما شكل منبرا للدفاع عن ملفات المغرب، تجاه الدول المناوئة للوحدة الوطنية وإن قلوا على مستوى الساحة الإفريقية فيبقى وجود بعضهم مؤثرا بدوائر القرار، وبالتالي فإن التأثير الذي أصبح يمارسه المغرب في أجهزة الاتحاد الإفريقي، له وزنه المعتد به خاصة بمجلس الأمن والسلم الإفريقي وإفشاله لمحاولات متكررة لتعيين مبعوث إفريقي خاص بقضية الصحراء بإيعاز ودعم من الجزائر وجنوب إفريقيا.
كما عمل المغرب على التكثيف من نشاطه وتواجده القاري والدولي على نحو تصاعدي، عبر استضافته لعدد مهم من القمم واللقاءات الدولية، والنجاح الذي حققه باحتضانه قمة المناخ بمراكش، ورئاسة المنتدى العالمي ضد الإرهاب، ومؤتمر الصخيرات، التي أغنت حقيبته الديبلوماسية، وسطرت على فعالية تواجده الدولي بشكل ملفت. وأيضا اجتماع مراكش الأخير ضد داعش، وهي المسألة التي ساعدت المغرب في تغليب البعد البراغماتي في علاقاته الثنائية مع دول كانت وحتى وقت قريب مصدر إزعاج دائم حيال ملف الصحراء، وأبرزها نيجيريا وإثيوبيا وكينيا.
بناء على كل هذه التحولات، اتجهت معظم الدول الإفريقية إلى التراجع عن سياسة الضغط التي تعتمدها كورقة في وجه المغرب في الملفات التي تقع على رأس أولويات الأجندة المغربية، بل وأبعد من ذلك، ارتفع بشكل تدريجي عدد الدول الإفريقية التي سحبت اعترافها بالكيان الإنفصالي والمطالبة بانسحابه من الاتحاد.
فالمغرب يشكل القيمة المضافة التي تحتاجها إفريقيا على جميع المستويات والأبعاد، فهو من الدول التي تعتبر فاعلا لا محيد عنه على الساحة الإفريقية، والمسألة تعود إلى كونه أبان على المستوى الإقليمي والدولي على اتزانه وثباته في تسييس الحل في عدة قضايا وأزمات، مما يبرز أن إسهامه في إرساء هذا الأمن والاستقرار في إفريقيا، سواء كان ذلك داخل جهاز الأمن التابع للمنظمة الإفريقية أو خارجه، يمثل موقفا ثابتا وراسخا منذ سنوات عديدة، على اعتبار بأن المغرب شارك في عمليات حفظ السلام بإفريقيا، ويتوفر اليوم على قوة لحفظ السلام في جمهورية إفريقيا الوسطى وجمهورية الكونغو الديمقراطية، كما يعد من الدول التي كانت قد نشرت أيضا قوة لحفظ السلام في كل من الصومال، والكوت ديفوار، وأنغولا.
كما أن المغرب ومن خلال عمله خلال مدة انتخابه السابقة لرئاسة مجلس الأمن والسلم الإفريقي، ساهم بشكل بناء في تحسين أساليب العمل وإرساء الممارسات الجيدة، لهده الهيئة في صنع القرار كما كانت رئاسة المملكة لهذا الجهاز التابع للاتحاد الإفريقي حافلة بجهود السلام والأمن والتنمية ومكافحة التغير المناخي. وهي المسألة التي أرست تلك الثقة التي منحت له كعضو بارز في أمن إفريقيا وازدهارها.
فالمشهود للمملكة المغربية أنها تنخرط بشكل كامل ومسؤول مما يسمح لها ويمكنها بشراكة مع الدول الإفريقية الشقيقة والصديقة لها أن تعطي اليوم الدفعة القوية التي تحتاجها إفريقيا، عبر الأخذ بزمام الإصلاحات الرامية إلى انبثاقها حرة ومزدهرة. وكذا تعزيز مصداقية ونجاعة الأدوار التي تقوم بها مختلف هيئاتها ومؤسساتها القارية، من حيث شفافية أساليب العمل وضمان مصداقية مسلسل صنع القرارات داخل مجالسها بهدف أن تصبح تشتغل وفق آليات للإنذار المبكر، واعتماد دبلوماسية وقائية لحل الأزمات. بعيدا عن كونها آليات لخدمة أجندات وأيديولوجيات واهية.
المحور الثالث: دور المغرب في حفظ السلم والأمن الإقليمي والقاري والدولي
لقد شارك المغرب في العديد من عمليات حفظ السلام وتسوية النزاعات، تحت المظلة الأممية في القارة الإفريقية، وظف من خلالها تجاربه المتراكمة في محاربة الجماعات المتطرفة وتهريب المخدرات والهجرة غير الشرعية، فضلا عن استثماره ميزة الاستقرار السياسي والأمني الذي يتميز به مقارنة مع العديد من الدول العربية والإفريقية المجاورة، مما جعله عنصرا مهما في عمليات حفظ السلام الأممية ووسيطا لحل بعض النزاعات الداخلية في البلدان الإفريقية.
ويعد هذا الدور الريادي للمغرب في قلب أدواره التطلعية بصفته عضوا في الاتحاد الإفريقي، ويندرج في سياق رؤية للشراكة الاستراتيجية مع إفريقيا على الصعيد السياسي والاقتصادي والأمني. وينبني نهج السياسة المغربية في المشاركة في حفظ السلام على المستوى الدولي والإفريقي، من خلال اعتبارين أحدهما قانوني يستمد مرجعيته أولا من ديباجة الدستور المغربي التي تؤكد على تعهد المغرب بالمحافظة على السلم والأمن في العالم. وثانيا، من التزام المغرب بمقتضيات المواثيق الدولية، وخاصة ميثاق منظمة الأمم المتحدة، التي تعتبر القناة الأساسية للحفاظ على السلم والأمن الدوليين عبر القرارات الصادرة عن مجلس الأمن الدولي. ليبقى الاعتبار أو الدافع السياسي للمشاركة المغربية في حفظ الأمن والسلم الدوليين في إفريقيا متشعبا بين رغبة المغرب في تحسين صورته وتقوية وزنه إقليميا ودوليا من أجل الدفاع عن المصلحة الوطنية المتمثلة في إيجاد حل لقضية الوحدة الترابية، ودرء كل عدوان ضد مصالح المغرب الوحدوية التي تسعى الجزائر إلى تكريسها مستغلة سياسة الكرسي الفارغ سابقا، كما أيضا يسعى من خلاله المغرب إلى أداء واجبه تجاه إفريقيا آمنة ومزدهرة وهي المسألة التي سوف تحفظ للمغرب أمنه واستقراره الداخلي، خاصة مع تزايد خطورة المد الإسلامي المتطرف ”داعش” بمنطقة الساحل والصحراء، وتنامي الجريمة العابرة للحدود وتنامي ظاهرة الانقلابات العسكرية بقوة في الآونة الأخيرة.
المحور الرابع: ملف حقوق الإنسان وتجنيد الأطفال بمخيمات تندوف
يعد المغرب من الدول التي لديها إيمان مطلق بالقيم التي تتظلل بها الإنسانية، ويسعى جاهدا وبكل إصرار من أجل تنبيه العالم إلى مكامن الشر حينما وجدت، وخاصة في منطقة الشمال الإفريقي والساحل، ومن أجل ابتكار كل الآليات والإمكانيات التي يمكن أن ترسي السلم في المنطقة وتحفظ كرامة الإنسان، وحياة الأطفال على الخصوص. حيث أصبحت مشاركة الأطفال في الحروب ظاهرة منتشرة وملفتة للنظر في أرجاء عديدة من العالم، إذ يتم استغلالهم من قبل كيانات حكومية وغير حكومية تجبرهم على المشاركة في النزاعات المسلحة، بتدريبهم على القتل أو استخدامهم في نقل المعدات والأسلحة، أو تجميع المعلومات عن الخصم مقابل تلبية حاجياتهم الأساسية من ملبس ومأوى وغذاء.
وبالنظر إلى التزايد المستمر لهذه الظاهرة، فقد تضمن القانون الدولي الإنساني أحكاما تنظم الوضع القانوني للأطفال المقاتلين، وتحدد أوجه الحماية المقررة لهم والواجب المفروض على أطراف النزاع لضمان حقوق هذه الفئة.
وهي المسألة التي يطرحها المغرب اليوم أمام المجتمع الدولي بخصوص أطفال تندوف وما مدى نجاعة أحكام القانون الدولي الإنساني في الحد من معاناة الأطفال، الذين تسرق البوليساريو براءتهم بحملهم السلاح، وضرورة نظر المجتمع الدولي بكل هيئاته المختصة بتنفيذ تدابير لوقاية أطفال تندوف وحمايتهم، وضمان تسجيلهم في مخيمات اللاجئين، وضمان حصولهم على التعليم، وكذا اتخاذ كل التدابير الحاسمة في مجال مساءلة كل من يحرضون أو يشجعون على تجنيد الأطفال في النزاعات المسلحة.
ويكون المغرب بافتتاح المركز الدولي للأبحاث حول الوقاية من تجنيد الأطفال بمدينة الداخلة، قد دشن شوطا آخر وسجل نقطة رابحة في معركته من أجل فضح ممارسات الجزائر وتابعتها البوليساريو، خاصة في مجال العبث بحاضر الطفولة الصحراوية ومستقبلها، حيث إن أهداف المركز تنبني على إبراز أهمية الموضوع وإدانة مرتكبي جرائمه، وأيضا تنبيه المنتظم الدولي لخطورته كنقطة سوداء في شمال إفريقيا.
كذلك إعداد الدراسات والأبحاث والاستشارات حول الوقاية واستغلال الأطفال، ورصد ومراقبة مختلف الانتهاكات في مناطق النزاع حول العالم، وتوفير آليات للترافع الدولي أمام منظمات الأمم المتحدة في مختلف المنتديات، بتعاون مع المجتمع المدني في العالم أجمع، والهيئات المدنية العاملة في هذا المجال. من أهم أهداف المركز بالإضافة إلى تطوير ونشر استراتيجيات لمواجهة جميع أشكال تجنيد الأطفال، مع تقديم حلول مبتكرة لمكافحة استغلالهم في النزاعات المسلحة.
ليكون المغرب بهذه النقطة قد طوق الخناق على البوليساريو وراعيتها، وأبرز الخطوط الحمراء التي يجب مراعاتها داخل وخارج مجلس الأمن الدولي بخصوص قضية الصحراء، وبخصوص الوضع الأمني في شمال إفريقيا ومدى أهمية تواجد المغرب الجيوسياسي بالمنطقة كشريك يعول عليه في تطويق ظاهرة الإرهاب وتثبيت السلم والاستقرار بما يتوافق وأهداف منظمة الأمم المتحدة.
* محللة سياسية مختصة في السياسة الملكية وقضية الصحراء المغربية