كان نداء القدس الموقع من قبل الملك محمد السادس وبابا الفاتيكان يوم السبت 29 مارس الماضي، الحدث الدولي الكبير بامتياز، ليس بسبب كونه إعلان حرب دولية كبرى تفرض نفسها معاناة ودمارا ودماء أجيال بأكملها، وإنما على العكس من ذلك، بالذات، بسبب إعلانه لمعركة التسامح الكبرى في مواجهة مسببات الحرب على أساس ديني أو مذهبي لم تخلف في الماضي غير الويلات ولا تحبل بالنسبة للمستقبل بغيرها. لذلك يمكن اعتبار النداء حدثا تاريخيا استثنائيا ومفصليا بالنسبة لمستقبل القدس في أبعادها الدينية وبالنسبة لتأسيسه لتصور نوعي للتسامح بين الديانات السماوية ينطلق من أن المشترك بينها هو ما ينبغي اعتماده أساسا في علاقات بعضها بالبعض الآخر، باعتباره عامل بناء على أنقاض كل الجدران التي تم تشييدها على قاعدة قضايا الخلاف، وحالت دون النظر إلى ما هو بناء، لترجيح كفة ما هو مدمر وهدام، على مستوى التصورات والمعتقدات، كما على مستوى السلوك والممارسات.
ولعل هذا البعد في نداء القدس هو الذي شكل بؤرة تحديد المواقف منه، على المستوى العالمي من خلال ما تم إصداره من بيانات وتصريحات عربية وإسلامية ودولية أوروبية وافريقية الخ.
وبطبيعة الحال، فإن السمة الراجحة في هذه المواقف هي الإشادة والترحيب، كما هو شأن قمة الجامعة العربية الثلاثين في تونس التي رأت فيه تطورا إيجابيا بالنسبة لهذا الملف الشائك في نزاع الشرق الأوسط.
وفِي الواقع، فإن هذا النداء يحمل رسائل ذات أهمية كبرى، بالنسبة إلى عدد من الجهات، نركز في هذه المقالة على عدد منها.
أولا، هو نداء رفض الهيمنة والغطرسة الإسرائيلية التي تحاول منذ احتلال القدس في عدوان 1967 والإقدام على إحراق المسجد الأقصى عام 1969 تغيير المعالم الجغرافية والسكانية للقدس المحتلة على قاعدة زعمها أنها عاصمة لإسرائيل الأبدية.
وهو ثانيا، رفض لإعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب اعتبار القدس عاصمة لإسرائيل ومحاولة إضفاء الطابع الشرعي لاحتلالها، من خلال الحديث عن سيادة إسرائيلية مزعومة على القدس، في خرق سافر لميثاق الأمم المتحدة وقوانين الشرعية الدولية ذات الصِّلة بالنزاع العربي الإسرائيلي، بما في ذلك قرارات الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي التي وافقت عليها مختلف الإدارات الأمريكية السابقة والتي لا تجيز الاستيلاء على أراضي الغير بالقوة وهو ما ينطبق تماما على القدس المحتلة .
وهو ثالثا، رفض لما يتم التلويح به من صفقة القرن التي يرى الكثيرون، وإن لم يتم الكشف صراحة بعد، عن بنودها الفعلية انها ترمي إلى تصفية القضية الفلسطينية من خلال إعادة إحياء مشروع الخيار الأردني، العزيز على تحالف الليكود الإسرائيلي اليميني المتطرف، والذي هو موجه، في آن واحد، إلى إلغاء حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره بنفسه وبناء دولته المستقلة من جهة، وإلى إلغاء حق المملكة الأردنية في الإستمرار باعتبارها دولة مستقلة وليست وطنا بديلا للفلسطينيين من جهة أخرى.
وليس هناك من شك أن هذا النداء هو، رابعا، رفض لكل تسويق عربي لمثل هذا الخيار غير الشرعي فأحرى الانخراط فيه، بأي شكل من الأشكال. ولعل من أهداف التحرك الدبلوماسي المغربي في المدة الأخيرة على المستوى الإسلامي والخليجي والرسائل الملكية التي حملها وزير الخارجية والتعاون المغربي ناصر بوريطة إلى قادة تلك الدول، التنبيه إلى مخاطر مثل هذا التوجه الذي أصبح في قلب السياسة الإسرائيلية، وبشكل هجومي، لم يسبق له مثيل، بعد الحصول على الدعم الرسمي الأمريكي وعدد من الدول الغربية التي تدور في فلك واشنطن، دون تردد ودون مراعاة لضوابط القانون الدولي.
وما يدعو إلى الإشارة إلى هذا البعد من التحرك الدبلوماسي المغربي الأخير، الزيارة التي قام بها العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني قبل توقيع نداء القدس حيث حظي بالدعم الكامل من المغرب في مواجهة مختلف الضغوط التي يتعرض لها بغاية فرض خيارات سياسية على الأردن تتنافى مع مسؤولياته السياسية والدينية تجاه القدس بالذات.
صحيح أن أصواتا هامشية حاولت التشويش على هذه الأبعاد الكبرى لنداء القدس غير أنها ظلت خارج السياق تماما، لسبب بسيط وهي كونها تنطلق من اعتماد ما تعتبره قضايا خلاف بين المسلمين والمسيحيين واليهود في موضوع القدس أو على مستوى المعتقد إجمالا، وهو منطلق لم يكشف عن قصوره في معالجة قضية القدس معالجة إيجابية تنظر إلى المستقبل فحسب، وإنما هي أيضا العامل السلبي في المقاربة المسؤول عن التناحر وصب الزيت على نيران النزاع الذي تحمل اسرائيل والتيارات المتطرفة داخلها مشعله منذ طرح هذه القضية على جدول التداول السياسي الإقليمي والدولي.
إن النظر إلى النداء في سياق هذا الواقع بالذات يفرض على الجميع الإعتراف بأنه كان تعبيرا حكيما وخطوة نوعية باتجاه الحفاظ على مكانة القدس خارج التجاذبات الإسرائيلية وكل التوجهات اليمينية او الدينية المتطرفة. وهذا ما حرص عليه جلالة الملك محمد السادس رئيس لجنة القدس والحبر الأعظم بابا الفاتيكان من خلال مهر هذا النداء بتوقيعهما الوازنين على الصعيدين الديني الروحي والسياسي الاستراتيجي.