تحرك الشعب الجزائري، وشبابه على وجه الخصوص، منذ الجمعة الماضي 22 من شهر فبراير، في احتجاجات واسعة، شملت مختلف المدن، بما في ذلك العاصمة، رفضا لترشح الرئيس الحالي عبد العزيز بوتفليقة لولاية رئاسية خامسة. وقد اعتبرت هذه التظاهرات والمسيرات، من النوع الذي حمل رسائل متعددة إلى صناع القرار، في الجزائر، بحيث ليس ممكنا النظر إليها، باعتبارها تحركات عفوية، غير ذات أهداف محددة المعالم، وبالتالي، يمكن أن تنتهي بسرعة وبطريقة مفاجئة مثل غيرها من التحركات العفوية في مختلف المجتمعات. ذلك أن شعارات مختلف المسيرات التي تم تنظيمها بالمناسبة، ركزت على مسألة أساسية هي كون ترشح بوتفليقة لولاية جديدة، منافيا للمنطق الديمقراطي، ولمقتضيات دستور البلاد، لتندرج ضمن منطق غير ديمقراطي في مختلف أبعاده وأهدافه القريبة والبعيدة، يقوم على التمديد اللانهائي للرئيس والتوريث المقنع للحكم في البلاد ضدا على مباديء الجمهورية وثوابتها. ولم يعد خافيا على شباب الجزائر، الذي اعتبر تحركه، من قبل عدد من وسائل الإعلام الجزائرية ذاتها، انتفاضة حقيقية أن الرئيس المنتهية ولايته في وضع صحي حرج، على أقل تقدير، يجعله غير قادر تماما على تحمل المسؤولية، على أي مستوى، من مستوياتها. وهو واقع تكرس وترسخ منذ بضع سنوات، وخاصة بعد مرضه الذي ألزمه الكرسي المتحرك، منذ الجلطة التي تعرض لها في ابريل عام 2013 حيث لم يعد قادرًا على مخاطبة الشعب الجزائري، ولا تمثيله في أي نشاط سياسي على مستوى نظرائه رؤساء الدول في جميع اللقاءات والمؤتمرات التي تعقد في الخارج، مما ترك المجال فارغا، أمام مجموعة مجهولة، من العسكريين والسياسيين، الذين يأتمرون بأوامرهم، لإتخاذ مختلف القرارات، باسم رئيس مشكوك في كونه يدرك، حتى ماذا يجري حوله، من أحداث، وطبيعة القرارات التي تتخذ بصددها باسمه، فأحرى أن يكون له أي دور يذكر في بلورتها أو تحديد خطوطها العريضة أو إدراك المضاعفات والنتائج التي تخلفها في مختلف المجالات.
وفي سياق هذا الحراك الشعبي، القوي، المناهض للولاية الخامسة، يمكن القول: إن رسالة الترشح التي كتبت باسم الرئيس بوتفليقة، حيث تم الإعتراف بمرضه، رغم الإستدراك بأنه، مع ذلك قادر، على مواصلة العمل من أجل خدمة الجزائر وشعبها، لم تقنع أحدا، خارج الدائرة الضيقة المحيطة به سواء من العسكريين أو السياسيين، في إطار ما سمي بالتحالف الرئاسي، والذين أصبحوا يعيشون في واقع خاص بهم لا يمت بصلة بالواقع الفعلي للشعب الجزائري الملموس. وقد عبر عن هذا الواقع عدد كبير من السياسيين الذين ينتمون إلى صفوف المعارضة، من خلال البيانات التي أصدروها بالمناسبة، تنديدا، بما اعتبروه مهزلة الرئاسيات، واستخفاف المجموعة الضيقة الحاكمة، بمختلف القوى الديمقراطية في البلاد، إلى جانب التعامل مع الشعب الجزائري تعاملا ينم عن اعتباره غير راشد، ولا يستحق أن يحكم نفسه بنفسه وعلى أساس اختياراته، كما لا يستحق أخذ موقفه بعين الاعتبار تجاه قضية كبرى، ترهن مستقبله بالمجهول، نظرا للفراغ الحقيقي الذي تمت معاينته على مستوى الرئاسة منذ زمن ليس بالقصير.
والملاحظ ان الشعارات التي رفعها المتظاهرون، في مسيراتهم عبر المدن الجزائرية المختلفة، كانت تربط بشكل صميمي بين الرفض المطلق “لحكم العصابات” وبين مناهضة “العهدة الخامسة”. وهو شعار ينم عن انكشاف اللعبة بشكل واضح، وأن كل محاولات إخفائها لا يعدو كونه ضرباً من العبث غير المجدي.
وقد حاولت السلطة، كعادتها، التقليل من أهمية الإحتجاجات الشعبية، تارة، فتحدثت عن أعداد، هي دون أعداد الحشود التي عرفتها بشكل كبير، كما حاولت الاعتراف بأحقيتها، تارة أخرى، لكن ليس بهدف أخذها بعين الإعتبار، لكونها رسالة واضحة من شرائح واسعة من الشعب تحمل رفضها للمنحى الذي يراد فرضه على الرئاسيات في البلاد، وبالتالي، ضرورة التراجع عن فرض عهدة جديدة لرئيس عاجز عن الفعل السياسي، وإنما لإستغلال تلك الإحتجاجات، واعتبارها الدليل غير القابل للدحض، على أهمية إنجازات الرئيس، والتي تستدعي، بالضرورة التجديد له، لاستكمال إنجازاته، لأنه ليس من الشخصيات التي تتخلى عن المسؤولية وسط الطريق، كما قال بعضهم. بينما بلغ الهذيان السياسي لبعضهم الآخر إلى حد اعتبار الرئيس بوتفليقة، رسولا من عند الله، وهبة منه للشعب الجزائري!.
ولعل اتساع دائرة الاحتجاج، على ولاية جديدة لبوتفليقة، لتشمل إعلاميي الإذاعة الوطنية الجزائرية الذين احتجوا على مسؤوليها جراء الضغط الممارس عليهم بغاية عدم تغطية الأحداث والمسيرات الشعبية الرافضة للتجديد لبوتفليقة، دليل على أن الدوائر التي كانت بمثابة الدرع الواقي لمختلف السياسات الرسمية للحكام الفعليين للجزائر، قد بدأت تتصدع بشكل جدي، وهو ما يشكل مؤشرا هاما على عمق الاحتجاج، وقوة منطق رافضي سياسة فرض الرئيس ضدا على إرادة الشعب وخرقا لنصوص الدستور ولروحه معاً.
فهل ستقرأ الدائرة الضيقة للحكم الجزائري المغزى الحقيقي للانتفاضة التي يعرفها الشارع الجزائري، وتستخلص العبر التي يقتضيها الموقف باستعجال، وفِي مقدمتها الإنصات لصوت الشعب، واحترام إرادته وطموحه في التغيير السياسي للخروج من الجمود القاتل الذي تعيشه الحياة السياسية في البلاد منذ أكثر من عقدين من الزمن؟ أم إنها لن تخرج عن منطقها وسلوكها المتجاهل لتلك الإرادة، وذلك الطموح وتتحمل بالتالي، مسؤولية استمرار وتأبيد ذلك الجمود وتبعات كل انزلاق محتمل إلى مواجهات مفتوحة مع المواطنين الجزائريين الرافضين للسياسات القائمة في مختلف الميادين .
إن الاحتقان السياسي الذي ترجمته مظاهرات في الشارع العام الجزائري، وشكلت إرادة فرض ولاية رئاسية خامسة، لفائدة رئيس لا يملك من المؤهلات الجسدية والمعنوية، ما يجعله قادرًا على الاستمرار في احتلال منصب الرئاسة، صاعقه الحقيقي، ليس على ما يبدو غير المقدمات الأولى، لما يمكن أن يتحول إلى كرة ثلج لأزمة سياسية خطيرة على حاضر ومستقبل الشعب الجزائري.
وهو ما ستحسم الأيام المقبلة فيه بشكل نهائي إن على مستوى تدارك الموقف قبل الأوان، كما يدعو إلى ذلك جل مكونات الشعب الجزائري وإن باتجاه التعنت كما يتخوف الرأي العام الوطني الجزائري نظرا لتجاربه العديدة مع الفئة العسكرية الحاكمة وراء الستار والتي لم تتوقف عن تهديد المواطنين بشتى السبل لثنيهم عن الإستمرار في المطالبة بالتغيير السياسي والقطع مع كل الأساليب البائدة في مصادرة الآراء والإلتفاف على المطالب وإطالة أمد الجمود السياسي رغم ما يمثله من تهديد حقيقي للمصالح العليا للبلاد على مستوى استقرارها ونموها السياسي باتجاه الديمقراطية.