جميل تذكر مناسبة تأسيس اتحاد دول المغرب العربي بعد توقيع أول اتفاقية بناء صرحه في مراكش منذ شهر فبراير 1989. وجميل أن يتذكر الإخوة الأشقاء، في هذا الفضاء الجغرافي السياسي الهام، التزامات بعضهم تجاه بعضهم الآخر، وتجاه شعوب المنطقة، وفق ما نصت عليه وثيقة التأسيس، وأن يتبادل رؤساء دول المغرب الكبير رسائل التهاني والتبريكات المفعمة بأنبل التمنيات وأطيبها لأشخاصهم وللشعوب المغاربية، غير أن هذا، كله، لا يغني عن الوقوف عند واقع الإتحاد وتشخيص حالته الفعلية بعد مرور ثلاثين عاما من تأسيسه، ومن الآمال العريضة التي أثارها، لدى شعوب المنطقة، والإلتزامات التي قطعها قادته تجاهها. ذلك أن هذا الواقع هو الذي يمكن اعتباره المخبر الحقيقي لكل الأقوال والخطابات الرسمية التي يتم تديبجها، كلما حلت هذه الذكرى أو غيرها من التواريخ الخاصة بهذا الشعب أو ذاك، حيث يتم تبادل رسائل لا تعدو كونها رسائل مجاملات، ليس ينتظر منها أن تغير شيئا من الواقع، وإنما هي نوع من العودة البروتوكولية الضرورية على مستوى الخطاب إلى مناخ التأسيس بالنسبة للاتحاد المغاربي أو ظروف الذكريات الوطنية الأخرى الخاصة بكل بلد، لإعادة التأكيد على المشاعر الطيبة والنوايا والتمنيات للدول والشعوب بتحقيق أهدافها في النمو والرقي بالعلاقات الثنائية والجماعية إلى مستوى الطموحات المعلنة.
إذ ماذا تنفع التمنيات والأحاديث، كلها، إذا كان الواقع يكذبها، من ألفها إلى يائها، ولا شيء على أرض الواقع ينبيء بغير ما هو متعارض ومتناقض، أحيانا، مع تلك التمنيات التي لا تعدو كونها كلمات في خطابات وأحاديث مناسباتية، لم يعد أحد يوليها كبير اهتمام، ما دامت لم تخرج قط من دائرة الكلام إلى دائرة الفعل.
ذلك أن بناء اتحاد الدول المغاربية يعني، أولا وقبل كل شيء، حرص قياداتها المتبادل على وضع آليات قادرة على الانتقال من واقع التشتت والتشرذم والتوتر العام، في العلاقات المغاربية البينية، إلى واقع توحيدي بناء. والحال، أن التوتر والصراع، بمختلف تجلياتهما، هو سيد الموقف على مستوى العلاقات الثنائية وخاصة بين المغرب والجزائر اللذين يشكلان محورا لكل تنسيق ومرتكزا لكل توحيد. ويكشف الواقع، يوما بعد آخر، وعلى مرور عقود من الزمن على استقلال المغرب السياسي، وتمكن الجزائر من التحول إلى دولة مستقلة بعد انتصار الثورة الجزائرية على الاستعمار الفرنسي، أن العلاقات بين البلدين لم تخرج قط من دائرة الشحناء والبغضاء السياسية، إلا لماما في ما يمكن اعتباره لحظات وعي عابرة بالمسؤولية الملقاة على قياداتهما، ولا سيما القيادة الجزائرية التي ناصبت العداء شبه المطلق للمغرب، ولقضاياه الوطنية ومصالحه الإستراتيجية الحيوية، وتصرفت على هذا الأساس بشكل منهجي وبطريقة لا غبار عليها منذ طرح مسألة استكمال الوحدة الترابية جنوبا على جدول أعمال السياسة المغربية. وهو موقف لم يعرف ربما أي ارتخاء في تشدده، إلا في ظروف تأسيس اتحاد دول المغرب الكبير الذي لم يستمر طويلا، بفعل التطورات الانقلابية في السياسة الجزائرية التي فرضت استقالة الرئيس الراحل الشاذلي بن جديد وأدت بعد ذلك إلى اغتيال الرئيس محمد بوضياف إلى جانب انزلاق الوضع الأمني الجزائري إلى ما يسمى في الأدبيات السياسية الجزائرية بالعشرية السوداء.
فهل تغير شيء بالنسبة للسياسة الجزائرية وعلاقاتها مع المغرب؟ ليس يملك الإنسان المغاربي والمراقب الموضوعي غير إبداء الأسف على الوضع الذي عليه هذه العلاقات، رغم يد المغرب الممدودة إلى القيادة الجزائرية لإعادة النظر الجماعية في العلاقات بين البلدين، وتجاوز مسببات الشنآن السياسي بينهما. وآخر مبادرة جادة من المغرب جاءت على لسان الملك محمد السادس في نوفمبر الماضي، وفِي خطاب ذكرى المسيرة الخضراء بالذات، حيث أكد على إطلاق الحوار المباشر بين البلدين من خلال آلية، على أعلى مستوى، تتداول حول مختلف القضايا، مباشرة ودونما حاجة إلى وسطاء، لأن ما يجمع بين الشعبين المغربي والجزائري أقوى وأمتن من كل الخلافات السياسية متى توفرت النوايا والإرادة السياسية لدى القيادات بالمضي قدما إلى الأمام، بما يعزز المشترك ويغذي عناصر التآلف التاريخي بينهما في حالات الشدة على وجه الخصوص.
غير أن خطاب الملك محمد السادس لم يجد الصدى الإيجابي المنتظر داخل أوساط الحكم في الجزائر التي أوعزت لوسائل الإعلام التابعة لها، بالتعامل مع الدعوة باعتبارها “اللاحدث” أو حتى شن الهجوم اللامسؤول عليها فقط لكون ملك المغرب قد اختار مناسبة ذكرى المسيرة الخضراء لإطلاق الدعوة.
وقد جاءت ذكرى تأسيس الاتحاد المغاربي لتشكل مناسبة لإصلاح ما يمكن إصلاحه من الأخطاء في مسيرة الاتحاد. فهل هناك ما يدعو إلى التفاؤل في رسائل الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة إلى نظرائه المغاربيين وخاصة دعوته إلى تفعيل مؤسسات الاتحاد المغاربي وإعادة بنائه بين الدول الخمس التي تشكله وهي الجزائر والمغرب وموريتانيا وتونس وليبيا؟
لا أحد يمكنه التكهن بأي شيء، على هذا المستوى، أمام استمرار الأوضاع على ما هي عليها بين المغرب والجزائر، لأنها وقائعها تظل قائمة وقد تكذب كل خطاب لا يتجاوز مستوى الخطاب.
والوقائع تؤكد، إلى حد الآن، أن الحدود بين البلدين مغلقة، منذ ربع قرن من الزمن، وليس في الأفق ما يدعو إلى التفاؤل في تجاوز هذه الحالة.
ورعاية الجزائر لجبهة البوليساريو الإنفصالية لم تتراجع قيد أنملة عما كانت عليه عبر عقود أربعة ماضية، هي عمر النزاع الإقليمي المفتعل حول الصحراء المغربية، ودعم المشروع الانفصالي سياسيا ودبلوماسيا وعسكريا يجري على قدم وساق. ولا تفوت القيادة الجزائرية أي فرصة تسنح لها في أي محفل إقليمي أو دولي دون التطوع بإعلان العداء للوحدة الترابية ودعم مشروعها الانفصالي في الصحراء المغربية.
وبطبيعة الحال، فعلى مستوى هذه الوقائع يمكن محاكمة كل خطاب سياسي، من حيث جديته وأهدافه الحقيقية. لأن الوقائع هي دوما امتحان لكل خطاب.