التخلف ظاهرة تاريخية مرتبطة بعوامل متعددة، بعضها ذاتي مرتبط بأوضاع البلدان والمجتمعات المتخلفة وطبيعة تطورها الداخلي، وبعضها مرتبط بشروط موضوعية وبعوامل خارجية، لا يد لتلك المجتمعات فيها وإنما فرضت عليها فرضا على المستويات الاقتصادية والسياسية، وربما الثقافية أيضا، أخذا بعين الاعتبار الإرث الثقافي للدول المهيمنة على الدول التي كانت مستعمراتها، ثم أصبحت تابعة لها على أكثر من مستوى.
كون ظاهرة التخلف تاريخية يعني أنه ليس هناك، من حيث المبدأ، دولة ما محصنة بشكل مطلق تجاه هذه الظاهرة. والدليل على ذلك، أن التاريخ قد عرف إمبراطوريات كبيرة لم يكن أحد يتوقع أنها ساقطة، في يوم من الأيام، لكنها سقطت، فعلا، في الغرب كما في الشرق، وآخر نموذج لذلك، الاتحاد السوفياتي السابق، رغم بعض التحفظ الممكن حول كونه نمطا من أنماط الإمبراطوريات التقليدية.
أما الأسباب الذاتية، فهي كذلك متعددة تمس الأوضاع الخاصة للمجتمعات، ومدى قدرتها على التكيف مع مستجدات الواقع. وعلى هذا المستوى يمكن الحديث عن التأخر عن الركب العلمي والاقتصادي والسياسي وظواهر المجتمع الدافعة نحو الإبداع والتغيير.
كما يمكن الحديث عن نوع من التأخر الفكري الذي يتخذ أشكالا متعددة، منها تقديس تصورات عن الماضي المجيد، حقيقة أو وهما، ليس باتجاه الانطلاق نحو المستقبل وإنما عبر الإنشداد إلى هذا الماضي والنظر إليه باعتباره مستقبل الدولة والأمة. والحال أنه لا يمكن إعادة إحياء تاريخ مضى واندثر، وأن الأمر يقتضي القيام بعملية نقدية جذرية لإحداث القطيعة الضرورية بين زمانين حضاريين مختلفين لإمكان البناء على خلاصات تلك القطيعة، التي تعني في ما تعنيه استيعاب عناصر التقدم في القديم وجعلها جزءا لا يتجزأ من تشكل نوعي جديد يخضع لمستجدات الواقع منظورا إليها في أفق مستقبلي أبعد. كما أن ذلك ضروري على الإطلاق على اعتبار أن مقاييس التقدم والتأخر ليست هي ذاتها في كل زمان ومكان، بل تسري عليها هي كذلك عوامل التغير والتحول كما تسري على مختلف الظواهر السياسية والاجتماعية والثقافية.
أضف إلى هذا سيادة نوعا من النظرة إلى الآخر، كما لو كان الشر المطلق. والحال أن التقدم مشروط بالتفاعل بين الأنا والآخر سواء في ميادين الصراع أو في ميادين التفاهم والتوافق.
وهناك بطبيعة الحال، العنصر الخارجي الذي لعب أدوارا كبيرة في تكريس التخلف من خلال نهب ثروات الشعوب والهيمنة على اقتصادياتها ودعم القوى المعادية للتقدم في مختلف البلدان، ودعم قوى التراجع والنكوص من جهة، ومن خلال التدخلات الاستعمارية المباشرة أو غير المباشرة لمنع أي تحول جذري داخل المجتمعات، التي تتطلع إلى بناء مستقبل مغاير يقوم على قاعدة خدمة مصالح الشعوب الوطنية العليا خارج كل تبعية أو وصاية، والتعامل الندي مع مختلف دول العالم بغض النظر عن أحجامها وأنظمتها السياسية واختياراتها الاقتصادية والاجتماعية.
ولا مجال للاعتراض أن المؤسسات المالية والنقدية الدولية قد أصبحت متحكمة إلى حد كبير في تحديد التوجهات التنموية للبلدان الفقيرة، حيث تشرط منحها القروض بعدد من القيود على مستوى تحديد مجالات الإنفاق، وكذلك القيام بإجراءات عنوانها الإصلاح لعدد من الهياكل، غير أنها الإصلاحات المقترحة أو المفروضة تتعارض في أغلب الأحيان مع التوجهات الاجتماعية للدول، الأمر الذي ينعكس سلبا على أوسع الفئات الفقيرة، التي تزداد فقرا مع كل إصلاح هيكلي دون أن تنتظر أي فائدة تذكر من تضحياتها لتمرير سياسات التقشف، وهو ما يؤدي إلى اتساع دائرة الهشاشة وتعدد عوامل المساس بالاستقرار الاجتماعي، إن لم يؤد إلى دفع الدول التي ترزح تحت قيود الديون الخارجية إلى الإفلاس، بشكل مؤكد، حتى لو بدا ضعيفا في وتيرته بالنسبة لبعض الدول التي تملك ما يكفي من الموارد والقدرة على التحمل أكثر من غيرها.
يبدو لي أن بداية الخروج من هذا الواقع ينبغي أن تكون على مستوى الذات الاجتماعية والوطنية، والعمل على سد الثغرات الخطيرة التي يتسلل منها الآخر المعادي أو المستعمر، للتأثير على واقعنا بما يخدم أهدافه التي لن تكون بالضرورة متطابقة مع أهدافنا، أما دون ذلك، فسنظل نجتر صراخنا حول كوننا ضحايا الاستعمار أو غيره من القوى العلنية أو الخفية، وهو اجترار ليس مفيدا في مواجهة التخلف وأسبابه والانتصار عليه. إذ كل ما يقوم به الاجترار هو الإشارة الدائمة إلى الغير، في حين أن المطلوب هو القدرة على قراءة دور الغير في ضوء دور الذات الجماعية للمجتمع المعني، لأنه أساس الانتصار على التخلف.