لم يتوقف الجدل السياسي في المغرب المعاصر يوما حول دور وجدوى تشكيل الأحزاب السياسية. غير أن هذا الجدل يتخذ أبعادا حادة في فترات الأزمات الاجتماعية او السياسية، كما في فترات محاولة البعض العمل على خلق شروط ملائمة لافتعال أزمات اجتماعية او سياسية، لاعتبارات ذات العلاقة بمصالح سياسية غالبا ما لا يتم الإفصاح عنها. غير أن استغلال كل عنصر يمكن أن يؤدي إلى اندلاعها من خلال التهويل والتحريض أو ما شابه، مؤشر ملموس على وجود هذه الإرادة مهما كانت درجة ضعفها أو قوتها لدى هذا أو هؤلاء.
والواقع الذي لا يرتفع هو أن الحاجة إلى الأحزاب والقوى الاجتماعية والسياسية المنظمة حاجة موضوعية لا يمكن الالتفاف عليها، تحت أي ذريعة كانت. ولعل هذه الحاجة في المجتمعات والدول الديمقراطية، أو التي تعد السير نحو الحياة الديمقراطية، أقوى بكثير، لأن هذه القوى من متطلبات الديمقراطية التي لا يمكن تصورها دون حضورها القوي ومساهمتها في مختلف مراحل العملية الديمقراطية، على صعيد البناء، كما على صعيد الممارسة. وليست المغربية لتشذ عن هذه القاعدة رغم أنها لا يمكن أن تعتبر نسخة طبق الأصل عن أحزاب أخرى لأنها بنت مجتمعا كل ما يميزه من عناصر ومعطيات ترتبط بالتجربة التاريخية الملموسة وطبيعة العلاقات الاجتماعية والسياسة السائدة لدينا والتي أثرت حتما في شكل وطرق اشتغال مختلف المؤسسات الحزبية في بلادنا.
إن تشكيل الأحزاب السياسية في المجتمعات الحديثة ليس غير نوع مركب بين رد الفعل والمبادرة. وهذه السمة التأسيسية تظل ملازمة لها في مختلف مراحل ممارستها لما بعد النشأة. ويعتبر تداخل هذين البعدين عاملا مميزا لمسارها، بغض النظر عن نتائجه وتطوره، بغلبة اتجاه رد الفعل على اتجاه المبادرة، أو العكس. وغالبا ما يتداول هذان البعدان الصدارة بالنسبة للأحزاب والقوى السياسية عموما . غير أن ما يميز الحزب السياسي المؤثر أو القادر على التأثير في حركيّة الممارسة السياسية، هو قدرته المتنامية على اتخاذ المبادرات. وهي وليدة القدرة على قراءة معطيات الواقع قراءة موضوعية، بمختلف عناصره المادية والذاتية، وطبيعة القوى الفاعلة فيه والمتنافسة من أجل تعظيم مصالحها أو نيل دعم مختلف شرائح المجتمع مما يسمح باتخاذ المبادرات في الاتجاه الذي تراه تلك القوى الأنسب للمرحلة السياسية التي يجتازها المجتمع، وأقدر على استقطاب اهتمام مختلف مكونات الرأي العام. أن هذه المبادرات وحدها هي القادرة على الدفع إلى صدور ردود فعل من قبل مكونات المجتمع السياسية بغض النظر عن طبيعة ردود الفعل تلك، ما دامت تلك القوى غير قادرة على التحرك في الميدان المعني دون أخذ تلك المبادرات بعين الاعتبار. وهذا ما يميزه عن بعض القوى الهامشية في المشهد السياسي أو الاستراتيجي التي لا تتوقف عن إعلان المواقف وطرح التصورات، إلا أن أحدا لا يأخذها على محمل الجد، لأنها لا تندرج ضمن ممكنات الواقع من جهة، ولا تلتزم، من جهة أخرى، بعدد من شرورط الممارسة الأولية، وفِي مقدمتها امتلاك تصور بديل أو رؤية واضحة بالنسبة للخطوات اللاحقة لإعلان تلك المواقف، ما دامت لم تلق آذانا صاغية. إذ كثيرا ما تتصرف على أن المهم ليس هو طرح مبادرات للإنجاز، وإنما إعلان المواقف قصد التميز وإيهام الذات، بالأساس، أن تلك القوى في مستوى الحدث وقادرة على تجاوز كل القوى الأخرى التي تتخصص في نعتها بأشنع الأوصاف لعدم تبنيها لمواقفها، وهي بذلك تكون قد فوتت على المجتمع فتحا ديمقراطيا لا يضاهى، على حد زعمها. لكن محاولات إرضاء الذات الشخصية أو الحزبية لا تغير من الواقع قيد أنملة. إذ لا جدال في أن هذا الأخير يتحرك على إيقاع القوى ذات القدرة على التأثير الفعلي على مجرى الأحداث، سواء لجهة العمل على التجاوب وإنجاح المبادرات، أو لجهة رفضها وعرقلتها ومحاولة توفير الشروط التي تسمح لها باتخاذ مبادرات مضادة أو بديلة.
فكيف يعتبر الحزب السياسي نوعا من رد الفعل مع كونه عامل فعل وتأثير ومبادرة في آن واحد؟
إن الحزب رد فعل يعي ظروف الواقع ومقتضيات النشأة، لكنه يتجاوز هذا الإدراك إلى مستوى تصور طبيعة الدور الذي عليه القيام به في تعاطيه مع الواقع، ضمن تعاطي القوى الأخرى معه، كل من منطلقاته الفكرية والسياسية، وطبيعة الأهداف القريبة والبعيدة التي ينشد تحقيقها بمفرده، أو في عملية تنسيقية أو تحالفية مع غيره من القوى التي يلتقي معها في أمرين اثنين على الأقل: الأول تقارب في تشخيص الواقع، وتحديد الأهداف خلال مرحلة زمنية محددة، ،والثاني الإدراك المشترك أن تحقيق تلك الأهداف ليس بإمكان اَي حزب بمفرده وإنما هو محصلة تضافر جهود القوى ذات المصلحة المشتركة، بغض النظر عن وزن هذه أو تلك في تلك العملية، لأن هذه القضية تتراجع إلى الخلف تماما لا سيما عند ظروف الاستعجال أو عندما يكون إغراق الجهد في تفاصيل حصص تلك القوى مدخل تفويت فرصة تحقيق ما هو ممكن من خلال التعاون، ليصبح ضمن مستحيلات الممارسة السياسية على مستوى عجز كل قوة بمفردها عن تحقيق الأهداف وعلى المستوى المرتبط بالتناحر المترتب بالضرورة على التباين القائم على اختلاف تقدير المكتسبات أو الحصص من منتوج مفترض، لتعاون مفترض، تحول هكذا إلى صراع ليس بالضرورة ثنائيا، أي بين طرفي المصلحة المشتركة في الإنجاز فحسب، وإنما أيضا مع الطرف أو الأطراف التي لم يكن تحقيق تلك الأهداف ضمن اجندتها، وإنما العكس هو الصحيح. وتباين وجهات النظر المفضي إلى تعطيل العمل كسب صافي للقوى المناوئة ورصيد إضافي لها في ذلك الصراع وهو خسارة ليس ممكنا نفيها بالنسبة لكل من كانت لديهم المصلحة المشتركة، في إنجاز المهمة المطروحة على جدول الأعمال.
إن التساؤل الحقيقي إذن، لا يرتبط بجدوى الأحزاب هكذا، وبشكل مطلق، أو الدعوة إلى محاربتها، كما يحلو للبعض اعتماده كأسلوب رغم عقمه الواضح على اعتبار كونها استجابة لحاجة موضوعية أصلية وضرورة لا غنى عنها في كل حياة سياسية ديمقراطية أو تتطلع إلى أن تصبح كذلك، بل السؤال المطروح هو: كيف يمكن تفعيل دورها وجعلها قادرة على مواكبة تطورات المجتمع وغير بعيدة من الانتظارات الشعبية والديمقراطية الحقيقية. وهو تساؤل لا ينبغي أن يغيب عن ذهن كل فاعل سياسي لإعادة الحياة إلى جدلية رد الفعل والمبادرة الملازمة لمسيرة كل القوى السياسية ومختلف مؤسسات المجتمع الحية فعلا وليس مجازا فحسب.