الديمقراطية نمط متغير، من أنماط متعددة، لممارسة النزوع الإنساني شبه الطبيعي إلى الحرية. وإذا كانت مضامين مصطلح الحرية لا متناهية، في الزمان والمكان، لأنها تنحو نحو المثال والمطلق المحفز على التقدم والتحقق على أرض الواقع السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي أو الثقافي، على امتداد التاريخ، وهو ما يضفي على المفهوم طابعا إنسانيا كونيا لا ريب فيه، بالنسبة لمختلف شعوب العالم لكونه جزءا من جبلته الأصلية، فإن مضامين مصطلح الديمقراطية الذي يظل مؤطرا داخل مفهوم الحرية، ليست في الواقع، غير وليد بيئته المتحولة والمتغيرة باستمرار، وهي التي تعطي مؤشرات هامة على مدى قدرة المنهجية الديمقراطية أو الشكل الديمقراطي في مختلف أبعاده، على تمثل مرحلة من مراحل التقدم على مسارات، وفي مجالات محاولة ممارسة الحرية في ميادينها وساحاتها.
وبطبيعة الحال، فإن كل ما هو متغير هو نسبي أساسا: من منظور الزمان، بما يمثله من مراتب في مجالات التقدم والرقي بالممارسة، باعتباره الأفق العام لهذه الممارسة. وهو نسبي بالنسبة للمكان، باعتباره التعبير عن خصوصية بيئته الاجتماعية والقومية والثقافية بشكل عام. وهذا ما يضفي على نمط الحكم السائد في أثينا القديمة الطابع الديمقراطي رغم شكله التمييزي الذي عرفه ومَيَّزَه في تاريخ الديمقراطية . إذ نجد فيه التمييز واضحا بين الذكر والأنثى وبين السيد أو الحر والعبد على سبيل المثال، في مختلف مجالات الحقوق، حيث لم يكن يسمح للعبيد والنساء، بأي حق من حقوق المواطنة والمشاركة في اتخاذ قرارات المدينة في حال السلم، كما في حال الحرب. ورغم ذلك، ومع كل هذه الشوائب، غير البسيطة، من منظور الديمقراطيات الحديثة، فإنها تظل منتمية الى نوع من انواع ممارسة الحرية بالنسبة لفئات معينة من المجتمع الأثيني التقليدي.
إن الديمقراطية اليونانية، بهذا المعنى، تمثل درجة من درجات الرقي والسمو بممارسة الإنسان نحو الحرية، وإن كانت ربما في أدنى درجات هذا السلم بالمعنى التاريخي. أي أنها مثلت مرحلة ريادية ضمن مسار طويل في مجال ممارسة الحرية رغم كل ما يمكن تسجيله من مآخذ عليها مقارنة بالأنظمة السياسية والاجتماعية الحديثة.
وفي سياق هذا البعد النسبي والمتعدد للديمقراطية باعتبارها ميادين للحرية وممارستها يمكن الحديث، على سبيل المثال وليس الحصر، عن بعض أشكالها في التاريخ السياسي.
وربما كانت تجربة المدن اليونانية شكلا من أشكال الديمقراطية المباشرة، غير أنها تظل ناقصة لاستبعادها العبيد والنساء عن المشاركة السياسية كما أسلفنا.
غير أن تطور مفهوم المدينة وتوسعه ليشمل مجمل المجموعة السياسية على إقليم لا يتوقف عن الاتساع، أبرز استحالة الممارسة الديمقراطية بشكل مباشر، فظهرت أشكالها غير المباشرة، متمثلة في اختيار الشعب مندوبين عنه وممثلين له في المؤسسات المستحدثة لهذه الغاية على اختلاف اشكالها وتسمياتها وأنماط اختيار أعضائها ومستوياتها المحلية والجهوية والوطنية ومدة ولايتها .
وليس خافيا أن اعتماد الديمقراطية التمثيلية، في العصر الحديث، قد ترافق مع نقد هذا الشكل من قبل مفكرين سياسيين مرموقين، مثل جان جاك روسو الذي يرى في هذا الشكل، على حداثته غير القابلة للإنكار، خيانة للديمقراطية لأن فكرة النيابة والتمثيل تفقد الشعب دوره وحقه الأساسي في ممارسة سيادته، لأن ممثليه في مؤسسات الديمقراطية التمثيلية يسطون، عمليا، على تلك السيادة ويتصرفون انطلاقا مما يعتبرونه مصلحة الشعب على قاعدة التفويض غير المقترن بضرورة العودة المنتظمة إلى الشعب لمعرفة آرائه الفعلية، حول كل القضايا المستجدة، بعد منح النواب صلاحيات النيابة لمدة زمنية معينة. وهذا يخل بمبدأ كوّن الديمقراطية حكم الشعب لنفسه بنفسه، الذي يجد نفسه خاضعا لتأويلات ليست بالضرورة متطابقة مع آراء ومواقف الشعب في لحظة بعينها يتولى فيها الممثلون اتخاذ القرارات نيابة عنه.
إن كونية هذا المفهوم نسبية إذن، وليست تعني حتمية شموله لسائر المجتمعات والشعوب في مختلف أبعاده وتجلياته وتفاصيله التنظيمية والإجرائية، وإنما هو مؤشر عام من المؤشرات الدالة على طبيعة الممارسة السياسية الموسومة بالديمقراطية. ومن هنا، فإن كل محاولة لتطبيق هذا المفهوم انطلاقا من تأويل كوني وشمولي مزعوم يؤدي تماما إلى اخضاع الشعوب لما هو ليس نابعا من إرادتها، وإنما يتم فرضه عليها فرضا. أي يؤدي، على العكس، مما يتم إعلانه والجهر بأنه المسعى الأساسي إلى نقيضه تماماً، على اعتبار أن من أولى أبجديات الممارسة الديمقراطية تمكين المجتمعات والشعوب من اختيار نمطها في العيش والحكم بما يتلاءم مع تاريخها وثقافتها ومستوى تقدمها في مختلف المجالات. وبطبيعة الحال، فإن محاولات الفرض، هذه، تتعارض، إلى حد التناقض، مع روح وفكرة الديمقراطية ذاتها كما هو واضح تماماً. وبالتالي، لا يمكن لأي ادعاءات سياسية او ايديولوجية أن تخفيه عن ذوي الوعي بحقيقة الديمقراطية.
وفي المقابل، فإن خصوصية المجتمعات المرتبطة بتاريخها وثقافتها ومستوى نموها وتقدمها في مختلف المجالات التي تلعب دورا هاما في تكييف تصوراتها ومجمل ثقافتها السياسية، بما في ذلك طبيعة العلاقة التي تنسجها بين الحكام والمحكومين وبين مختلف مكوناتها والأساليب التي تنتهجها في فض منازعاتها السياسية وغيرها، لا يمكن أن تعني الانغلاق التام عن الواقع المتعدد لباقي المجتمعات والشعوب تحت مزاعم الفرادة المطلقة والخصوصية التي تكتسي طابعا جوهريا وماهويا لا وجود له في الواقع، بل يراد به تكريس الاستبداد السياسي أو غيره من أشكال الاستبداد غير القابلة لأي تبرير عقلاني على كل حال.
ويبدو أن العمل على ضبط إيقاع الممارسة السياسية على إيقاع تطور المجتمع ونمو ثقافته السياسية على قاعدة اعتبار توسيع مجالات ممارسة الحرية والرقي بها نحو الأفضل، هو الأسلوب القادر على ضمان التزام فعلي بقضايا الشعب الملموسة في إطار السعي إلى تنمية وتطوير مختلف الممارسات التي ترفع لواء تحقيق الحرية باعتبارها مبدأ إنسانيا كونيا يستغرق مختلف الممارسات والأبعاد الاخرى بما في ذلك الديمقراطية بمختلف أنماطها.