ينطلق مختلف الفاعلين السياسيين في الدول الديمقراطية الحديثة في ممارسة السياسة، حكومة ومعارضة وتيارات مختلفة، من مباديء وقيم دستورية يعترف بها الجميع ويعمل على تطبيقها. مع ملاحظة أن التطبيق يعتمد على قراءة لا تخل بنص وروح الدستور في مجملها وإن لم تكن متطابقة لدى كل مكونات الطبقة السياسية، نظرا لاختلاف المصالح وتنوع التصورات والاستراتيجيات التي توجهها.
وبطبيعة الحال، فإن مختلف القوانين التنظيمية التي تستهدف ضبط العمل بموجب الدستور ليكون قريبا، ما أمكن، من غايات المشرع تظل حاضرة، وبقوة، في ذهن ممارسي السياسة باعتبارها علامات على طريق هذه الممارسة. لذلك، فإن تجاوزها، وعدم الالتزام بمقتضياتها يعتبر إخراجا للممارسة من دائرة المطلوب والمقبول دستوريا وديمقراطيا، للزج بها ضمن دوائر المحظور الذي يجعله تحت طائلة القوانين الجنائية التي تتعاطى مع طيف واسع من الجنح والجنايات، حيث تتدخل مختلف العقوبات والإجراءات الزجرية في حق المخالفين بشكل مباشر أو غير مباشر، بما لا يتناقض مع احترام الحقوق الأساسية للأفراد والجماعات إعمالا لمبادئ الدستور والأعراف الديمقراطية.
وهكذا فإن الدستور يضمن حق الإضراب والتجمع والتظاهر كأشكال للاحتجاج والتعبير عن مطالب هذه الفئة الاجتماعية أو تلك، على سبيل المثال وليس الحصر، غير أن ممارسة هذا الحق ليس مطلقا ولا يخضع لأي حيثيات تضفي عليه شرعيته، بل هو مشروط بمقتضيات قانونية ومسطرية ينبغي توفرها والحضوع لها من طرف الحكومة ومختلف أجهزتها المعنية بإعمال القانون، ومن طرف قوى المجتمع ومختلف الفاعلين في الحياة الاجتماعية والاقتصادية’ بحيث لا تتحول القوانين المنظمة لممارسة حق من الحقوق إلى مجرد مساطر وإجراءات من جهة الحكومة للمساس الفعلي بها والزج بها، عمليا، ضمن دائرة الاستحالة أو المحظور، انطلاقا من ضرورة احترام صلاحيات بعض مؤسساتها وأجهزتها في تقدير مدى الضرر الذي يمكن أن يترتب على ممارسة تلك الحقوق ضمن ظرفية ما. وبالتالي، إعطاء الأولوية المطلقة لهذا التقدير وحرمان أصحاب الحقوق من حقوقهم بصورة منهجية مما يمس، في نهاية المطاف، بشرعيتها مع تواتر المنع والحظر الذي تتعرض له. وهذا مخالف تماما للمبادئ الديمقراطية التي تحمي الحريات، إضافة إلى تعارضه مع روح الدستور ونصوصه الصريحة في سن تلك الحقوق والسهر على ممارستها.
غير أن هذا ليس يعني بالمقابل، أن تنصيص الدستور على تلك الحقوق يعفي أصحابها من احترام القوانين المنظمة لمختلف التحركات النضالية، وضرب كل مساطرها عرض الحائط بذريعة القوة الحقيقية في حجية الدستور على ما عداه من قوانين وتقديرات، ومشروعية المطالب التي تدافع عنها الفئات المنخرطة في عمليات الاحتجاج، نقابات كانت أو جمعيات مهنية أو فئات اجتماعية أخرى، ترى أن من مصلحتها اعتماد أساليب الاحتجاج لتحقيق مطالبها وفرض القبول بها على الجهات الحكومية او القطاعية المعنية. ذلك أن انطلاق هذه الفئات من أولوية كون تقديرها في تحديد الشروط الملائمة لممارسة حق الإضراب أو التظاهر أو غيرهما من الأشكال النضالية المشروعة، وعدم أخذ تقديرات مؤسسات الدولة بعين الاعتبار سيصطدم حتما بتقدير الحكومة وأجهزتها في تحديد طبيعة تلك الظروف. والاختلاف بين التقديرين ليس مجرد مواقف يتم الإعلان عنها، وانما يعرف في كثير من الأحيان ترجمته المأساوية على ارض الواقع، حيث يتم تدخل القوات العمومية لمنع فئات الاحتجاج من تنفيذ ما ترتب على مواقفها وتقديراتها، كما قد يتخذ شكل مواجهات تنخرط فيها القوى التي ترى أنها مغبونة تارة أو أنها صاحبة الحق في التأويل والتقدير الحصري لمقتضيات الدستور، ولو كان ذلك في شكل عدم مراعاة الشروط المرافقة لكل لعملية ترجمة بنوده على أرض الواقع.
فكيف يمكن تفادي هذا الصدام مع احترام مقتضيات الدستور وتفعيل القوانين وعدم المساس بالحريات الفردية والجماعية، بما في ذلك حق الإضراب والتجمع والتظاهر السلمي للتعبير عن الاحتجاج والمطالبة برفع حيف هنا أو هناك؟.
ليس هناك مناص على هذا المستوى من الانطلاق من اعتبارات لا يتم الالتزام بها عادة رغم أن الجميع يصنفها ضمن بديهيات ومسلمات العمل السياسي أهمها:
أولا، ليس هناك حق مطلق لأي جهة كانت للانطلاق من أن تأويلها للدستور وتقديرها للظرفية السياسية التي تؤطر وتحدد طبيعة ممارسة الحقوق المكفولة دستوريا، هو الذي ينبغي أن تكون له الأولوية على غيره من التأويلات والتقديرات، لأن الإطلاق، هنا، هو مدخل ممكن أو فعلي لكل انحراف نحو السلطوية من جهة، أو عدم احترام الدستور أو القانون، أو حتى فوضى الممارسة من جهة أخرى. وكلاهما خسارة صافية بالنسبة للمجتمع والدولة وبالنسبة للمسألة الديمقراطية والتنمية السياسية في آن واحد.
ثانيا، إن القول بنسبية هذا الحق لا ينبغي أن ينفي أن المواقع ليست متماثلة بين الحكومة وبين مختلف قوى المجتمع الأخرى، لأن واجبات الحكومة تتمحور حول حماية والدفاع عن حقوق المجتمع بمختلف مكوناته، بما في ذلك حقوق القوى التي لا تشاطرها الرأي وتعمل على تغييرها بالطرق الدستورية والديمقراطية المتعارف عليها في مختلف دول العالم، وهي باعتبارها جهازا تنفيذيا خاضعة لمراقبة عدد من المؤسسات الدستورية يمكن اللجوء إليها عندما ترى هذه الجهة أو تلك ان الحكومة قد تجاوزت صلاحياتها الدستورية. ومن بين هذه المؤسسات المؤسسة التشريعية والمجلس الدستوري بحسب طبيعة المشكلات المطروحة والجهة التي لها صلاحية البت فيها لرفع الحيف وإحقاق الحقوق.
وفِي المقابل، فإن القوى والمنظمات الاخرى التي تنخرط في الاحتجاج غالبا ما تقوم بذلك دفاعا عن حقوق بعض الفئات والشرائح الاجتماعية التي مهما كانت واسعة لن تكون قادرة على استغراق المجتمع برمته وبالتالي، فان هذا الموقع ليس متماهيا مع موقع الحكومة الدستوري والقانوني.
ثالثا، ولعل اعتماد اُسلوب الحوار ومحاولة الوصول إلى التفاهمات بين القوى الاجتماعية والسياسية المختلفة وبين الحكومة هو الطريق الأنجع في مقاربة القضايا وتخفيف حدة التوتر الاجتماعي، على اعتبار أن كل حوار جدي بين الطرفين سيؤدي، حتما، إلى اخراج عدد من القضايا من دائرة ما هو مختلف حوله لتدخل الى دائرة ما يجد طريقه الملموس الى الحل، بشكل فوري او على مدى زمني منظور ومتفق حوله، كما بخصوص مختلف آلياته.
وليس هناك أدنى شك أن إنجاز خطوات، على هذا المستوى، قد يضيق دائرة قضايا الاختلاف سواء تم التوصل بصددها إلى برمجة حوار معمق حولها في المستقبل أو تم تعليقها إلى أن تتوفر الشروط الملائمة لتناولها بشكل يقرب من حلها. ولا يغير من هذا لجوء القوى الاجتماعية المختلفة إلى اعتماد أساليب النضال المشروعة للضغط على الحكومة من اجل الاستجابة للمطالب التي تعتبرها مشروعة، لكن ضمن روحية احترام الدستور ومقتضيات القانون كما أسلفنا.
وأخيرا لا أحد يمنع القوى الاجتماعية والسياسية من مواجهة الحكومة بشكل مباشر في البرلمان ليس فقط بواسطة الأسئلة الشفوية، وإنما أيضا بحث إمكانية تقديم ملتمس الرقابة لحجب الثقة عتها متى آنست تلك القوى من نفسها القدرة على تحقيق هذا المطلب أو اعتبرت أن اللجوء إلى هذا الأسلوب هو الذي سيفرض على الحكومة إعادة النظر في حساباتها وسلوكها حتى ولو لم يكن لملتمس الرقابة أن يسقطها إذا كانت تحظى بأغلبية مريحة في المؤسسة التشريعية.
إن الاخلال بهذه الشروط ينتهي بالحكومة إلى الشطط في استعمال سلطة التأويل لمقتضيات الدستور والقوانين المنظمة للحركات الاجتماعية، وينتهي بالقوى الأخرى إلى تعميم الفوضى وتحويل النضال المشروع إلى مجرد شكل من أشكال الابتزاز السياسي الواعي أو غير الواعي. وليس بالإمكان إنكار او التستر على مضاعفاتهما السلبية على مجمل الممارسة السياسية