يواجه الرئيس الفرنسي “إيمانويل ماكرون” في هذه الأيام، شبح تراجع شعبيته عن المعدل الذي وصلته قبل أقل من شهرين حين وقف المؤشر عند نسبة 64 في المائة من الراضين عن سياسته، لكن المؤشر المضاد ارتفع إلى 43 في المائة من غير الراضين عن أداء الرئيس، وفق آخر استطلاع للرأي أجرته مؤسسة “إيفوب” المعروفة بمصداقيتها وحرفيتها في المجال.
ولا يشكل هبوط أسهم ساكن قصر الإليزيه، مفاجأة في الحياة السياسية الفرنسية، فقد طال كل الرؤساء الذين دخلوا قبله القصر الرئاسي، وهم في ذروة الشعبية على إثر نجاحهم في الاستحقاق الشعبي. ينسحب هذا المبدأ على كل الذين نالوا ثقة الفرنسيين: فرانسوا ميتران، جاك شيراك، نيكولا ساركوزي، فرانسوا هولاند.
المعطى الثابت في علاقة الفرنسيين برؤسائهم، أنها سريعة التغير، لا تستقر على حالها لفترة معقولة. يستعجلون النتائج والقرارات التي تصب في مصالحهم، من وجهة نظر فئويةصرفه، وليس من زاوية النظر إلى المصلحة العامة: العمال يطلبون رفع الأجور والموظفون يطمحون إلى تحسين وضعياتهم ورجال الأمن يطلبون المزيد من العتاد لمواجهة حالات الفوضى والجريمة المتنامية، فيما تتفتح شهية رجال المال والأعمال للتخفيف من الأعباء الضريبية وسن قوانين عمل جديدة تتسم بالمرونة،يؤمنون أن تحرير سوق الشغل هو مفتاح خلق فراص العمل وكسب التنافسية ضد القوى الاقتصادية الأجنبية.
أمام الرئيس الجديد وهو دون الأربعين، نفس دفتر المطالب الاجتماعية تقريبا، غير أن التزاماته في الحملة الانتخابية ،ربما عرضته لرياح نقد عاصف من الصحافة والأحزاب وشرائح عريضة من الرأي العام، على خلفية إقدامه على تقليص ميزانية القوات المسلحة، ما أثار رئيس الأركان الجنرال “دوفيليي” الذي لم يكتف بإشهار خلافه مع الرئيس ، وهو القائد العام للجيوش الفرنسية، ما يعني وجوب انضباط الجنرال، بمقتضى الدستور ، وإنما ذهب به الغضب إلى إخراج السر العسكري لشبكات التواصل الاجتماعي (التويتر)، مصرحا أنه لا يقبل تقليص الميزانية العسكرية وتعريض امن الفرنسيين للخطر في ظرف تواجه فيه بلاده والعالم تحديات الإرهاب وعدم الاستقرار. تصريح غير موزون يتهم رئيسه الأعلى صراحة.
والحقيقة أنه لا معنى لأرقام ميزانية الدفاع الفرنسي في حد ذاتها، لكنها تفصح، حسب تحليلات متطابقة، أمرين: إرادة الرئيس المعلنة بقوة وجرأة، للمضي قدما في الإصلاح الذي تعارضه جيوب المقاومة، ليس في صفوف القوات المسلحة وإنما في الكثير من مرافق الدولة.
وكأن الرئيس “ماكرون” يقول بوضوح أنه قادر على إصلاح أنبل وأقدس مؤسسة تتولى الدفاع عن الفرنسيين، وبالتالي لن تقف في وجهه أشكال المقاومة الفئوية، مهما كانت مبرراتها ومشروعيتها. ففرنسا كما أكد “ماكرون” في حملته، بعبارات ملتبسة وقوية في نفس الوقت، تتطلب اتخاذ قرارات شجاعة لتخطي الجمود والمحافظة اللذين يطبعان المجتمع الفرنسي إجمالا.
ومن الواضح أن “ماكرون”، مدرك لردود فعل قوية محتملة قد تثيرها قراراته. وهو لذلك يتوقع دخولا ساخنا بعد عطلة الصيف فقد أعلنت عنه النقابات سلفا، بل زادت أنها لن تكون رحيمة بالرئيس الذي تتهمه بمحاولة الإجهاز على المكاسب الشعبية التي تحققت عبر العقود الماضية عبر نضالات ومواجهات مع السلطات السابقة.
ولا يريد الفرنسيون الذين اعتادوا رغد العيش، أن يستوعبوا أن زمن الرفاهية قد ولى وأن فرنسا التي رسخت وسوقت نموذج الدولة الراعية أو البقرة الحلوب لمواطنيها، لم تعد قادرة على الإنفاق الاجتماعي بمثل سخاء العقود الماضية.
وليس المطلوب منهم شد الأحزمة على البطون ، ففرنسا دولة ذات اقتصاد قوي وإن تعرض لهزات وأزمات. إن المطلوب من الفرنسيين بمنطق رئيسهم أن يتقبلوا الإصلاحات الضرورية وانتظار نتائجها خلال مدى زمني معقول. لن يتيسر ذلك ما لم يتخلوا عن بعض من أنانيتهم والاعتقاد بأن استطلاعات الرأي هي التي تحل المشاكل المتوارثة والمتراكمة. إنها أداة تشير إلى حرارة ومزاج المستطلعين ونوعية ودرجة انتظارهم، وبالتالي بات حتميا تخلصهم من مرض يستشري بينهم،يغذيه تنافس مؤسسات سبر أغوار المواطنين.
ولا تغفل هذه الملاحظة دور التوجيه والإرشاد والتحذير الذي تضطلع به مراكز الاستطلاع،كونها مظهر من مظاهر الديمقراطية والدولة الحديثة، تقوم بواجب التنبيه إلى احتمالات انحراف الحكام.
وعموما، فإذا كانت السياسة تشبه في بعض جوانبها الطقس المعرض للتقلب، يجوز القول كذلك إن الرئيس الفرنسي، له ما يكفي من القنوات لمعرفة قبلية لما يمور في قاع المجتمع الفرنسي.
للرئيس سلاحان قويان، يجعلانه يسير بحذر ويقظة: أغلبية في المؤسسة التشريعية تحميه ولايته من أزمة دستورية، تمثيلية تعددية في الحكومة، تجعل اليمين واليسار متشبثين بها. لكن السلاح الفعال الذي صنعه الرئيس “ماكرون “والأشد مضاء، يتمثل في دحره للأحزاب السياسية العتيقة، في اليمين بتياراته واليساربأصنافه: المعتدل والشعبوي والثوري الجذري.
بطبيعة الحال توجد بقايا في المجتمع من تلك الأطياف، قادرة على الدخول في معارك مع نظام الرئيس “ماكرون” لكن نفس المقاومة سيكون قصيرا عندها. إن أصرت على التشدد، سيوقعها ذلك في مواجهة عنيفة مع الرئيس وحكومته، وهو المسنود بأغلبية منتخبة، لا يضيره أن تهبط مؤشرا شعبيته.كما أنه يعرف، من وحي تجارب تاريخ بلاده، أن الشعوب ميالة عادة إلى النسيان بل الجحود في حق زعمائها. ألم يفشل مؤسس الجمهورية الخامسة وزعيم المقاومة الوطنية “الجنرال دوغول “في استفتاء شعبي، فرض عليه الاستقالة والتنحي؟
تبقى الإشارة إلى سلاحين أخرين يمتلكهما الرئيس الفرنسي: أولهما الاعلام الحديث، وثانيهما نشاطه الديبلوماسي في الخارج وإطلاقه لعدد من المبادرات، جعلت من فرنسا الدولة الأولى المؤثرة في سياسات العالم، حسب تصنيف مؤسسة مشهورة، بعد أن كانت الخامسة.
صحيح أنها أدوات أو إنجازات غير كافية لعلاج مشاكل الداخل، ولكنها على الأقل ستخفف الضغط عنه لإنفاذ سياساته …