تميز خطاب جلالة الملك محمد السادس، بمناسبة عيد العرش، بكونه تدخلا قويا صريحا وإيذانا بدخول الحياة السياسية في البلاد مرحلة جديدة، حيث لا تمييز بين المسؤول والمواطن على مستوى ربط المسؤولية بالمحاسبة، تفعيلا للدستور وحماية للمصالح العليا للوطن.
تقوم هندسة الخطاب الملكي على التفاعل بين تشخيص الواقع بمختلف أبعاده ومشكلاته الاجتماعية والسياسية، وبين تصور الحلول الممكنة في ضوء ما توفره القوانين السائدة، وخاصة الدستور باعتباره القانون الأسمى. وهي هندسة لا تسمح بأي قراءة اختزالية أو جزئية لإقامتها لروابط قوية بين التشخيص والمقاربة المعتمدة وقاعدة انطلاق ومصب الحلول. فتشخيص الواقع انطلق من معاينة أهم نتائج مسار طويل من التدبير دل عليها الاصطدام شبه اليومي بين مختلف المؤسسات وبين المواطنين في مختلف مناطق البلاد.
ولأن الواقع ليس كتلة من المعطيات الموضوعية الجامدة، وإنما هو حركيّة دائمة وتفاعل بين ما هو ذاتي وموضوعي، فإن المقاربة الملكية انكبت على البعد الذاتي من خلال محاكمة أداء مختلف المؤسسات الإدارية والمنتخبة والتأطيرية للوقوف عند تأثيره على هذا الواقع، الذي لم يعد قابلا للتبرير حيث تجاوزت مفارقاته الفهم أو القبول.
وبطبيعة الحال، فإن كل قراءة لا تقف عند عناصر الواقع الاساسية ومحددات مقاربة التشخيص لا تفي بالغرض المنشود، وهو الفعل في الواقع بما يخدم استراتيجية محددة في البناء وإعادة الحيوية الضرورية لمؤسسات الدولة والمجتمع. فماذا يقول الواقع بالذات؟
إن الواقع يؤكد بالملموس أن “برامج التنمية البشرية والترابية والحصيلة ليست متواضعة ودون الطموح فحسب، وإنما صادمة، غير مشرفة ومخجلة نظرا أساسا لضعف العمل المشترك، وغياب البعد الوطني والإستراتيجي والتناسق لفائدة التنافر والتبخيس والتماطل في سلوك المؤتمنين على إنجاز مختلف المشاريع، ومن تقع على عاتقهم مسؤوليتها على المستوى المبدئي، حيث إن ما يعيق تقدم البلاد هو ضعف الإدارة العمومية، حكامة ، ونجاعة وجودة خدماتها، كما جاء في الخطاب.
وهنا يصبح التساؤل مشروعا ” ألا يجدر أن تتم محاسبة أو إقالة أي مسؤول، إذا ثبت في حقه تقصير أو إخلال في النهوض بمهامه؟
وكان جواب الخطاب واضحا ودقيقا تماما عندما اكد “على ضرورة التطبيق الصارم لمقتضيات الفقرة الثانية، من الفصل الأول من الدستور التي تنص على ربط المسؤولية بالمحاسبة.
وأكد ان الوقت قد حان “للتفعيل الكامل لهذا المبدإ. فكما يطبق القانون على جميع المغاربة، يجب ان يطبق أولا على كل المسؤولين بدون استثناء أو تمييز، وبكافة مناطق المملكة. ذلك اننا في “مرحلة جديدة لا فرق فيها بين المسؤول والمواطن في حقوق وواجبات المواطنة، ولا مجال فيها للتهرب من المسؤولية أو الإفلات من العقاب”. خاصة ان الأحداث التي تعرفها بعض المناطق قد أوضحت ان الوضع “انزلق بين مختلف الفاعلين، إلى تقاذف المسؤولية، وحضرت الحسابات السياسية الضيقة، وغاب الوطن، وضاعت مصالح المواطنين”.
وهذا ما حول النموذج المؤسسي المغربي الذي يعد ” من الأنظمة السياسية المتقدمة الى مجرد حبر على ورق في معظمه، والمشكل يكمن في التطبيق على أرض الواقع. وان حرص الملك على فصل السلط وتحمل كل واحد لمسؤولياته لا يعني ترك الحبل على غارب اللامسؤولية
يقول الملك ” ولكن إذا تخلف المسؤولون عن القيام بواجبهم، وتركوا قضايا الوطن والمواطنين عرضة للضياع، فإن مهامي الدستورية تلزمني بضمان أمن البلاد واستقرارها، وصيانة مصالح الناس وحقوقهم وحرياتهم”.
وينبغي هنا استحضار أن هناك من يروج لمفهوم خاطيء حول الملكية المغربية انطلاقا من القول: إن الملك ليس جزءا من الصراعات السياسية الحزبية التي تخترق الجسم المجتمعي المغربي، ليستنتج منه أنها غير معنية بما يجري من نزاعات وصراعات بين القوى المختلفة. والحال، أن الترويج لمثل هذا التأويل غير الفعلي يؤدي إلى الإيحاء بأن هناك تناقضا في موقف وسلوك الملكية، مما يجري على أرض الواقع عندما تتدخل وفق آليات ما لإعادة الأمور إلى نصابها. والواقع أن الملكية ليست محايدة، ولا يمكن أن تكون محايدة، بالمعنى الذي يعطيه البعض لعبارة الحياد، حيث يترادف مع اللامبالاة تجاه ما يجري على المشهد السياسي وخاصة عندما يتعلق الأمر بقضايا حيوية واستراتيجية بالنسبة لحاضر ومستقبل البلاد.
إن سياق التدخل الملكي هنا، سياق دستوري، ولا يمكن تحميله أي تأويل من شاكلة تشديد البعد التنفيذي في الملكية المغربية أو التمهيد لانقلاب مزعوم على الديمقراطية، وهو ما حرص الملك على توضيحه عندما أعاد التأكيد في خطاب العرش على عدم القبول ” بأي تراجع عن المكاسب الديمقراطية. ولن نسمح بأي عرقلة لعمل المؤسسات. فالدستور والقانون واضحان، والاختصاصات لا تحتاج إلى تأويل”.
وبهذا المعنى، فإن الخطاب الملكي خطاب تاريخي يدشن مرحلة جديدة نوعية سيكون لها ما بعدها النوعي في ممارسة المسؤولية السياسية في بلادنا.