بقلم: هيثم شلبي
يحاول النظام الجزائري مؤخرا، عبر دبلوماسيته ووسائل إعلامه، أن يوحي بأن عهد الرئيس تبون يشهد “طفرة” في الدور الأفريقي للجزائر، وعودة إلى ماضيها “التليد” إبان الحرب الباردة في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، وذلك باستقبالها لهذا الرئيس أو ذاك، أو قيام وزير خارجيتها أحمد عطاف بزيارة هنا وهناك، دون خيط ناظم أو استراتيجية واضحة، اللهم متابعة الحرب غير المعلنة مع “العدو المغربي” بوسائل غير عسكرية! لكن لا ينتبه النظام وأبواقه الإعلامية، أن بناء دور إقليمي وقاري لا يتأتى من خلال زيارة هنا ورسالة هناك، بل هي عملية بناء معقدة وصعبة، تستجيب لمصالح الأطراف المختلفة، وتحقق فائدة حقيقية لهما معا، دون مس بسيادة أي منهما؛ مع ضرورة أن تكون العلاقة واضحة، وألا تصدر إشارات متضاربة من مختلف مؤسسات بلد ما تجاه بلد آخر (بعضها إيجابي وبعضها سلبي)، وهي جميعها شروط، لا يحسن النظام الجزائري تلبية أي منها، مما يحكم مسبقا بعدم وجود فرصة للنظام العسكري، بامتلاك مثل هكذا دور أفريقي. كيف ذلك؟
إذا سلمنا جدلا أن النظام الجزائري قد تخلى عن أساليب السبعينيات والثمانينيات، وأوقف سياسة شراء المواقف من قيادات الدول الأفريقية بواسطة “حقائب البترودولار”، إدراكا منه لتبدل الأوضاع في كثير -إن لم يكن معظم- دول هذه القارة، فهل يحسن النظام الجزائري بناء دور يقوم على المصالح المشتركة مع دول القارة، لاسيما جنوب الصحراء التي يستهدفها بشكل أساسي هذه الأيام، بعد أن أدرك أن حدود تأثيره في محيطه المباشر (شمال أفريقيا) تكاد تقتصر على تونس قيس سعيد!!
بداية، من المفيد أن نلقي نظرة على المصالح الاقتصادية للجزائر في أفريقيا جنوب الصحراء، بمعنى: هل تمثل واردات الجزائر إلى هذه الدول، وصادراتها إليها، قيمة تؤسس لحرص هؤلاء “الشركاء”على استدامة هذه العلاقات الاقتصادية بينها؟ تقول أرقام 2022 أن مجموع صادرات الجزائر إلى القارة الأفريقية لا يتجاوز 2.2 مليار دولار، من أصل صادراتها الإجمالية التي بلغت 58.6 مليارا، وهو أمر مفهوم نظرا لكون 90% من صادرات الجزائر هو من سلعة واحدة: النفط والغاز، وتذهب حصريا إلى جيران الشمال. لكن لو نظرنا إلى حصة دول جنوب الصحراء من هذه الحصة الضئيلة أصلا، نجد أنها لا تتجاوز 340 مليون دولار، أي 15% فقط من صادراتها للقارة الأفريقية (85% من صادرات الجزائر الأفريقية تذهب لجوارها المباشر في شمال القارة)، وهو ما يمثل 0.6% من مجموع صادراتها للعالم!! وضع الواردات من دول أفريقيا جنوب الصحراء أسوأ حالا، حيث إنها لا تتجاوز 7.5% من مجمل وارداتها الأفريقية (تستورد الجزائر ما نسبته 92.5% من وارداتها الأفريقية من جيرانها شمال القارة)، أي ما نسبته 0.3% من مجموع وارداتها من دول العالم. بهذه الأرقام، لا يمكن الحديث عن مصالح اقتصادية بين الجزائر وأي من الدول الأفريقية، بطريقة يمكن معها التفكير مرتين قبل محاولة المساس بهذه العلاقة. ويتأكد غياب البعد الاقتصادي في الدور الجزائري المنشود قاريا، عندما ندرك أن أيا من صادراتها أو وارداتها، يتجاوز المواد الأولية عموما، دون مواد مصنعة أو قيمة مضافة.
صعوبة ضعف الجزائر الاقتصادي يرجع إلى كون عبئه ملقى على الجانب الحكومي، مع الغياب التام لمساهمة القطاع الخاص الجزائري، نظرا للطبيعة المركزية المغلقة للاقتصاد الجزائري “الاشتراكي”. بينما لو قارنا ذلك مع طبيعة العلاقات الاقتصادية المغربية مع دول القارة السمراء، نجد أن القطاع الخاص يتحمل الجزء الأكبر من هذا “التمدد” المغربي، لاسيما قطاعات البنوك، والأسمدة، والاتصالات، والمواصلات، والبنية التحتية، والتكنولوجيا الحديثة، وهو ما يؤسس لمنافع يصعب على الدول الأفريقية المعنية بهذه الشراكات الاستغناء عنها، نظرا لمساهمة الشركات المغربية في الاقتصاد الوطني، وحل مشكلة البطالة في هذه الدول.
وإذا انتقلنا لميدان السياسة، فالنظام الجزائري يكاد لا يعرف معنى لهذه الكلمة داخليا وخارجيا، حيث إنه لم يخرج من أجواء الحرب الباردة حتى الآن، نظرا لشيخوخة الممسكين بزمام الأمور في البلد سياسيا وعسكريا (معظمهم تجاوز منتصف العقد السابع من عمره). ولعل توتر علاقاته مع جواره المباشر وغير المباشر، لخير دليل على عدم اعترافه بالندية التي يجب أن تطبع علاقاته مع باقي الدول الأفريقية، وممارسته للابتزاز والتهديد بدلا من التفاهم وحفظ مساحة لسيادة الطرف المقابل. وتنطبق هذه التوصيفات على علاقة الجزائر مع جوارها المباشر (موريتانيا ومالي والنيجر وليبيا وتونس، ناهيك عن المغرب)، الأمر الذي يرسل رسائل غير إيجابية لباقي دول القارة الأبعد. بل إن ازدواجية القرار في النظام العسكري قد سببت مزيدا من التدهور لعلاقات الجزائر التقليدية، ومثال ذلك “عنتريات” الجنرال شنقريحة في رواندا، والتي أتت في سياق محاولته لوقف قطار تحسن علاقات هذا البلد مع المغرب، غير أن نتائجها كانت كارثية، حيث استدعت الكونغو الديمقراطية سفير الجزائر احتجاجا على تدخل شنقريحة في شؤونها الداخلية، بدعمه الانفصاليين شرق البلاد المدعومين من رواندا، بل ووصل الأمر إلى “تدمير” علاقة الجزائر بأحد حلفائها التاريخيين، أوغندا، التي أظهر رئيسها موسيفيني ذلك بوضوح قبل أيام، خلال استقباله “المهين” لوزير الخارجية الجزائري أحمد عطاف!
ولعل ما يفاقم وضعية النظام الجزائري على صعيد القارة الأفريقية، ويجعله يكاد يقتصر على جنوب أفريقيا ،ويضع كل بيضه في سلتها، إضافة إلى كل ما سبق طبعا، أنه، وبسبب وضعيته المتكلسة والمتجاوزة، وهياكله المهترئة، وطبيعته العسكرية، يفتقر إلى أي قدرة على التفكير الإبداعي (خارج الصندوق)، والقيام بمبادرات تناسب الطبيعة الجديدة لاقتصاد وسياسة العالم اليوم، وهو ما يتجلى من خلال اقتصار مبادراته الأفريقية على شق طريق عبر موريتانيا والنيجر، دون التفكير في الجدوى الاقتصادية لهذه الطرق، وهل لدى الجزائر ما تصدره لهذه الدول، وهل سيستخدمها فعلا المصدرون الجزائريون القلائل الذين يملكون ما يصدرون! بينما يتضح تفكير المغرب الإبداعي “على كبير”، عندما قدم مبادرة إنشاء حلف جنوب الأطلسي، وأتبعها بمبادرة ربط دول الساحل بالمحيد الأطلسي، وقبلها وضع نفسه في خدمة الامن الغذائي في القارة السمراء من خلال موارده الهائلة في الأسمدة، وغيرها من المبادرات التي يجتهد في تقديمها لشركائه في القارة مما يكسبه ثقتهم.
كخلاصة، ولأسباب هيكلية تخص بنية النظام العسكرية، وطبيعته العقائدية التي تتمحور حول العداء للمغرب، رغم معرفة القاصي والداني -باستثناء الجنرالات طبعا- بالمقولة الشهيرة “الكراهية لا تصنع سياسة” أو “الكراهية ليست سياسة”، يمكن القول بثقة، أن المثل الإنجليزي الشهير: قليل (صغير) جدا.. متأخر جدا Too little.. Too late! تنطبق أشد ما تنطبق على خطوات الجزائر “الصغيرة جدا” تجاه القارة الأفريقية، “والمتأخرة جدا”، حيث إنها تأتي بعد أن بدأت في فقدان مكانتها الأفريقية بالتوازي مع عشريتها السوداء قبل أزيد من ثلاثة عقود؛ وأن لا مجال لاستعادة ثقل الجزائر الأفريقي “نظريا” سوى عبر تغيير جذري لهذا النظام، وكنس العسكر من جميع مفاصله، والتصالح مع محيطه المباشر أولا، قبل أن يطلب ثقة الدول البعيدة!!