يطرح مشروع قانون المصالحة أكثر من إشكال في المجال الاقتصادي والمالي المرتقب الذي أعلنت عنه رئاسة الجمهورية، يتوقف عليها تحوله من مجرد مشروع إلى قانون فعلي معتمد في الواقع. الإشكالية الأولى قانونية أساسا والثانية سياسية بامتياز. وضمن الإشكالية الأولى يُطرح تساؤلان رئيسيان: فيم يتعارض هذا المشروع مع قانون العدالة الانتقالية؟ وهل من تعارض بين هذا المشروع و الدستور؟.
مشروع المصالحة أم قانون العدالة الانتقالية؟
تعارض هذا المشروع مع قانون العدالة الانتقالية، واقع على عدة مستويات: فمن حيث خلفيتة السياسية، يقول القائمون عليه انه يتعلق بتدعيم العدالة الانتقالية، وتحقيقها عبر طي صفحة الماضي وغلق الملفات نهائيا، وتهيئة مناخ الاستثمار وإنعاش الاقتصاد الوطني وتعزيز ثقة المواطن في الدولة.
أما المناؤون له، فلا يرون فيه إلا تطبيعا مع منظومة الفساد وتنازلا عن محاسبة المورطين فيها واستخفافا مفضوحا بالقوانين ومحاولة للالتفاف على قانون العدالة الانتقالية وإجهاضه وتصفية آخر ما تبقى من مؤسسات الثورة والانتقال الديمقراطي ومكافأة رجال الأعمال الذين ساهموا في تمويل الأحزاب الحاكمة.
في الحقيقة لا يعدو المشروع ان يكون سوى محاولة لإنقاذ المتورطين في قضايا الفساد المالي والاقتصادي ومحاولة إدراجهم في الدورة الاقتصادية مجددا بعيدا عن أي محاسبة قضائية أو اعتراف علني بما اقترفت أيديهم. وكل ذلك على أساس “العفو” و “الصلح” الذي سيتم إقراره تحت إشراف لجنة حكومية تتولى النظر في الملفات وإغلاقها ضمن مسار يختلف تماما عن مسار قانون العدالة الانتقالية الذي نصّ على ضرورة الكشف عن الحقيقة والمساءلة والمحاسبة وجبر الضرر من قبل هيئة مستقلة و منتخبة تخضع لرقابة البرلمان ودائرة المحاسبات، وعلى نحو يضمن التّعاون مع القضاء دون استبعاده أو الحلول محله.
والثابت أيضا، أن هذا المشروع قائم على إلغاء جميع الأحكام المتعلقة بالفساد المالي والاعتداء على المال العام الواردة في القانون الأساسي عدد 53 لسنة 2013 المتعلق بإرساء العدالة الانتقالية وهو ما يتجاوز مجرد التّضارب إلى التنافي وبالتالي فان القول أن هذا المشروع يأتي في سياق دعم قانون العدالة الانتقالية لا يمكن تصديقه.
أما عن تعارض هذا المشروع مع قانون العدالة الانتقالية من حيث المضمون، فالثابت أن هناك تضارب واضح على مستوى أكثر من فصل لاسيما ما تعلق منها “بلجنة التحكيم والمصالحة” الذي نص عليها الفصل 45 تحديدا والذي سيصبح في حكم الإلغاء. فهذه اللجنة -أي لجنة التحكيم والمصالحة- الموكول إليها في الأصل النظر في مطالب الصلح في ملفات الفساد المالي وفق شروط حددها الفصل 46 من القانون نفسه.
وقد اشترط هذا الفصل على كل طرف معني بالمصالحة الإقرار بما اقترفه كتابيا من جرم واعتذاره الصريح عن ذلك مبينا الوقائع التي أدت إلى استفادته غير الشرعية والكشف عن حجم الفائدة المتحققة من ذلك. ومن الواضح أن تشريح أصول الفساد و تفكيكه ومعالجة دائه من جذوره معالجة جذرية يشكل الأساس الفلسفي لهذا الفصل وهو الهدف الأسمى من قانون العدالة الانتقالية، غير أن هذا الأمر غاب أو غيّب في نص المشروع الجديد.
بهذا المعنى إذا، فان المشروع لا يمكن إلا أن يمثل مسارا موازيا للعدالة الانتقالية يتعارض مع ما نص عليه الفصل الأول من قانون العدالة الانتقالية من مراحل لتحقيقها وذلك من جهة كشفها لحقيقة الانتهاكات ومساءلة المسؤولين عنها وجبر ضرر الضحايا.
وإحداث “لجنة المصالحة”، وهي لجنة حكومية تتولى النظر في مطالب الصلح، يعني تجريد الهيئة من أهم مشمولاتها (الفصل 45 و 46) والاستيلاء على اختصاص الدوائر القضائية المتخصصة للغرض والمتعهدة بالانتهاكات المتعلقة بتزوير الانتخابات وبالفساد المالي والاعتداء على المال العام كما نص على ذلك الفصل 8 من قانون العدالة الانتقالية.
والتضارب مع قانون العدالة الانتقالية حاصل أيضا في خصوص تحصين قرارات لجنة المصالحة من أي وجه من أوجه الطعن أو الإبطال أو دعوى تجاوز السلطة(فصل 5) وهو الأمر الذي خص قانون العدالة الانتقالية به قرارات لجنة التحقيق والمصالحة ” الفصل 50″. والمدهش ألا تخضع قرارات “لجنة المصالحة” المنبثقة عن مشروع القانون المرتقب، وهي لجنة يمكن وصفها بالإدارية، لأي نوع من أنواع الرقابة القضائية وهو ما يعني أننا إزاء حالة غريبة على القانون العام في تونس، ذلك أن من خصائص القرار الإداري بوصفه صادر عن سلطة تنفيذية أن يكون قابلا لدعوى تجاوز السلطة.
وتجدر الإشارة أيضا إلى ما في هذا المشروع من توجه غرضه تحصين المورطين في الفساد من المحاسبة من هيئة الحقيقة والكرامة أو غيرها من الهيئات القضائية على أساس توقف التتبعات أو المحاكمات أو تنفيذ العقوبات في حق الموظفين العموميين وأشباههم من أجل أفعال تتعلق بالفساد المالي وبالاعتداء على المال العام، باستثناء تلك المتعلقة بالرشوة وبالاستيلاء على الأموال العمومية (الفصل 2 من المشروع)، والحال أن قانون العدالة الانتقالية قائم على قاعدة عدم سقوط الدعوى بمرور الزمن وهي القاعدة التي نص عليها الفصل 9.
مشروع قانون المصالحة يتضارب أيضا مع قانون العدالة الانتقالية فيما يتعلق بالفصل 15، وهو فصل لا نخاله يدخل ضمن سلسلة الفصول الملغاة التي أشار إليها الفصل 12 من مشروع قانون المصالحة، وهو الفصل الذي شدّد بوضوح على أن المصالحة لا تعني الإفلات من العقاب وعدم محاسبة المسؤولين عن الانتهاكات.
وهذا من شانه طرح إشكاليات أخرى تتعلق أساسا بتأويل هذا الفصل لنعرف فيما كان يشمل المسائل المتعلقة بالفساد المالي ومن ثم إثبات حالة التزامن بين المصالحة و الإفلات من العقاب حتى يتبين التعارض بين هذا الفصل وذاك ومن ثم يطرح تساؤلا آخر : أيهما النص الأولى بالتطبيق ؟ وهو ما يتطلب ضبط قائمة مفصلة بالفصول المقرر إلغائها.
لتبرز مشكلة أخرى تتعلق بتركيبة هذه اللجنة و التي تضم فيما تضم عضوين عن هيئة الحقيقة و الكرامة. والسؤال : كيف لها أن تباشر عملها بكامل أعضائها والحال وأن هيئة الحقيقة والكرامة لم تُستشر في هذا الخصوص، بل عبّرت عن رفضها لهذا المشروع الذي رأت فيه أكثر من شبهة:
فهل هناك محاولة لضرب هيئة الحقيقة والكرامة بزرع بذور الفتنة والتفكك داخلها والحال وان مشروع القانون اعتبر أن غياب هذين العضوين لا يحول دون تكوينها؟ أم هو محاولة البحث عن مشروعية مفتقدة وإجماع موهوم وشركاء دون رضاهم؟.
تناقض مشروع قانون المصالحة مع الدستور
التعارض مع الدستور مسألة على غاية من الأهمية، إذ على أساسها يتوقف قرار الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية القوانين، فالدستور لا يقف حائلا دون المصالحة و لكن بالتأمل فيه يتبين التعارض معه نصا و روحا.و بالعودة إلى توطئته، يؤكد الدستور القطع مع الظلم و الفساد، في حين ان مشروع قانون المصالحة متعارضا معه، فروحه و فلسفته ابعد ما يكون عن القطع مع الحيف و الفساد، بل يكرّسهما.
بل لا نجد لمبدإ الفصل بين السلطات في التوطئة، أي صدى في ثناياه، لاسيما فيما يتعلق بالفصل بين السلطة التنفيذية و السلطة القضائية، وكأنّ مبدأ الفصل بين السلطات لم يتمّ التنصيص عليه في الدستور إلا تزيّدا، وليس من باب الالتزام القانوني. وتجدر الإشارة إلى أن الفصل 145 قد نبه إلى أن التوطئة جزء لا يتجزأ من الدستور و بالتالي لا معنى لأي محاولة لعزل التوطئة عن متنه أو تجريدها من آثارها القانونية على أساس أن عباراتها وصفيه و عامة أو فضفاضة.هذا على مستوى التوطئة، أما على مستوى المتن فالتضارب كامن على أكثر من صعيد:
اولا، يبدو التضارب على مستوى الفصل 148 من الدستور الذي يلزم الدولة بتطبيق منظومة العدالة الانتقالية، وهي مسألة لا يمكن تجاوزها دون إرباك البنيان الدستوري برمته، وقد كنا حذرنا في محاضرة سابقة من أن يكون الدستور التونسي قد تجاوزته الأحداث، ذلك أن استعداء هذا القانون وما انبثق عنه من هيئات من الرئيس الحالي، بدا واضحا منذ البداية.
ثانيا،حصل تضارب مع الفصل 10 من الدستور الذي يلزم الدولة في فقرته الثالثة على أن “تحرص على حسن التصرف في المال العمومي وتتخذ التدابير اللازمة لصرفه حسب أولويات الاقتصاد الوطني وتعمل على منع الفساد وكل ما من شأنه المساس بالسيادة الوطنية”.
بهذا المعنى، فمشروع المصالحة تزكية لنشر الفساد و ليس منعه. فمنع الفساد و مقاومته لا يمكن أن يتم في إطار اللجان المغلقة البعيدة عن أنظار القضاء ومن خلال التسويات المشبوهة، أما عن استبدال مبدأ المحاكمة العادلة بصلح مفترض يقوم على مقابل مبلغ مالي يتم دفعه من قبل المعني بالأمر “يعادل قيمة الأموال العمومية المستولى عليها أو المنفعة المتحصل عليها تضاف إليها نسبة 5% عن كل سنة من تاريخ حصول ذلك”، فأمر فيه نظر.
و لا يوجد فيه اية فيه قرينة لحسن التصرف في المال العمومي. فمن أدرانا أن التعهد القضائي لن يوفّر نفس هذه العائدات وربما اكبر ؟ ومن يدر ي أن هذا الالتزام مع لجنة المصالحة سيتم احترامه من جانب المعني بالأمر دون التفاف أو تهرب.؟؟ ومن يمكنه اجبار بارونات الفساد على على كشف حجم النهب الذي قاموا به ؟ تطرح هذه الأسئلة في علاقة بالضمانات القانونية الفعلية وإمكانيات الوفاء بالالتزامات بشكل صارم ودقيق. وهي مسائل غابت غُيِّبت من نص المشروع.
والحال أن الأمر يتعلق هنا بالتعامل مع أشخاص استطاعوا راكموا عبر السنين خبرة في التلاعب بالقوانين وترسخت فيهم ثقافة التهرب والجبائي و القضائي.
ثالثا، هناك تضارب مع الفصل 21 الذي ينص على المساواة في الحقوق و الواجبات، أمام القانون بين المواطنين دون تمييز، والحال أن العفو عن المخالفات المصرفية الواردة “بمشروع قانون المصالحة” يؤدي بالضرورة إلى الإخلال بمبدأ المساواة بين المطالبين بالأداء فضلا عن خرق قواعد الحوكمة الرشيدة. والسؤال المطروح : بأي معنى يتم الاستفراد بالمجال الاقتصادي والمالي بمشروع المصالحة دون بقية المجالات؟ ولماذا يتم تسوية وضعيات البعض دون البعض الآخر ؟ وهل أن السياسيين باتوا في مأمن من أي محاسبة بعد أن استولوا على الحكم فكان لابد من الاهتمام بإنقاذ بارونات الفساد؟
رابعا، يلوح تضارب مع الفصل 110 من الدستور الذي يمنع إنشاء المحاكم الاستثنائية التي من شانها المساس بمبادئ المحاكمة العادلة، وهو ما بات واقعا بفعل إحداث لجنة المصالحة بوصفها لجنة حكومية لم يراع فيها احترام ابسط الضمانات الأصلية و الإجرائية. والفصل 130 من الدستور المتعلق بهيئة الحوكمة الرشيدة و مكافحة الفساد و المنوط بعهدتها رصد حالات الفساد في القطاعين العام والخاص والتقصي فيها و المفروض أن تكون مرجع المشورة، يطرح بدوره أكثر من تساؤل: هل يجوز المصادقة على هذا المشروع الذي يدخل في صميم صلاحيات هذه الهيئة ومؤسسات الدولة لم تتشكل بعد ؟ لماذا يتم إرباك عمل مجلس نواب الشعب، والحال أن مجلس نواب الشعب “عالق” بإعداد أكثر من مشروع وهو ملزم بآجال محددة (مشروع المجلس الأعلى للقضاء ومشروع المحكمة الدستورية ). أم أن النية تتجه لاستغلال الفراغ المؤسساتي الحاصل بحكم طبيعة المرحلة الانتقالية لكي يتم تمرير بعض تشريعات لا تحقق العدالة؟
لاريب، أن المسار الانتقالي غابت عنه المحكمة الدستورية دون أن يشكل ذلك عائقا أمام تمرير أكثر من قانون و المصادقة عليه. و لكن ذلك تم في ظل حضور الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية القوانين التي استطاعت إلى حد الآن أن تقوم مقام المحكمة الدستورية في كثير من الميادين بجدارة وجرأة، ولكن بالنسبة الى مشروع المصالحة، فالأمر مختلف تماما، إذ تم إعداده ليس فقط في ظل غياب الهيئة الدستورية المعنية مباشرة بالموضوع، وبل في ظل تجاهل كلي للهيئات ذات العلاقة صاحبة الدور في حماية الدستور، وكبح جماح استبداد السلطة التنفيذية، ولعل في الدور الذي تقوم به الهيئة الوقتية للقضاء العدلي بالنسبة الى للقانون المتعلق بمجلس القضاء العدلي أفضل برهان.
إن مشكل مشروع قانون المصالحة هو مشكل غياب استكمال مؤسّسات الدولة الديمقراطية. ويمكن القول، أن هناك شرطا إجرائيا شكليا غير متوفر. وليس لنا إلا أن ننتظر موقف الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية القوانين لنعرف ما إذا كان تجاوز هذا الشرط يقف مقام “النظام العام الدستوري” على غرار ما ذهبت إليه في قرارها الأخير بخصوص مشروع قانون المجلس الأعلى للقضاء أم سيكون للهيئة رأي آخر.
مشروع المصالحة والاختلاف مع الاتفاقيات الدولية
مبادرة السيدة سهام بن سدرين بالذهاب إلى لجنة البندقية في محاولة لمعرفة رأيها من هذا المشروع فرض علينا تساؤلا ثالثا: هل يتعارض هذا المشروع مع الاتفاقيات الدولية المتعلقة بمكافحة الفساد وغيرها؟
إن اللجوء إلى هذه الجنة الأوروبية التي تتولى النظر في مدى ملائمة القوانين الوطنية للمعايير الدولية و تقدم استشارات في هذا الغرض – سيضع مشروع المصالحة أمام تحد حقيقي، فهذه اللجنة ذائعة الصّيت، ستبين بالتدقيق أين يكمن فساد المشروع والانحرافات التي ينطوي عليها على ضوء الاتفاقية الدولية لمكافحة الفساد وغيرها من الاتفاقيات و المعايير الأوروبية. و الأرجح أن تذهب اللجنة في اتجاه إدانة هذا المشروع وهو ما سيؤثر على الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية القوانين.
والثابت أن الفساد مسألة مركبّة لا تتوقف عند الرشوة و الانتفاع المالي والعيني كما يريد أن يوحي به لنا “مشروع قانون المصالحة”، وأن المسؤولية فردية ولا تقتصر على من أعطى التعليمات، وان تورُّط بعض الأطراف النافذة لا يعفي بقية الأطراف المنفذّة على اعتبار انها مجرد أدوات لا تملك من أمرها شيئا، فهذا المنطق لا يستقيم مع المعايير الدولية لمكافحة الفساد. و قد سبق للجنة ان نظرت في مسودة الدستور التونسي 1جوان 2013 من حيث ملاءمته للمعايير الدولية، و كان موقفها منه ايجابيا.
مشروع المصالحة و الواقع الحزبي و السياسي
أما سياسيا، فتكمن اهمية المشروع فيما يستبطنه من ترجمة فعلية على تغيّر موازين القوى بصورة حاسمة و نهائية. و هو الذي سيقدم لنا فكرة، ليس فقط عن جحم التنازلات التي ستقبل عليها حركة النهضة مستقبلا. بل في حالة تحوله الى قانون، سيكون منطلقا لرسم الخارطة الحزبية القادمة على أساس ثنائية أنصار الثورة وأعدائها وأنصار الفساد و مناهضيه.. والواقع ان هناك أزمة حقيقة في الحكم لا تفك تأخذ في كل مرة أشكالا مختلفة و أبعادا معينة، جوهرها هو وجود حزب حاكم انبثق عن المنظومة القديمة والدولة العميقة في ظل مسار انتقالي و ديمقراطي يأبى العودة إلى الوراء.
والمطروح شبه مستحيل: كيف السبيل إلى إعادة المنظومة القديمة دون المساس بقواعد اللعبة الجديدة؟ و في هذا المستوى تكمن أزمة الحزب الحاكم تحديدا.أما عن حركة النهضة فان تمريره لا يعدو كونه تأكيدا عن تجنب المواجهة الحامية مع المنظومة القديمة. ولا نملك إلا تفهم هذا التمشي و الحذر تجاه بعض القضايا الحساسة و المصيرية، فالنهضة لا تريد أن تكون رأس حربة في مغامرة سياسية قد تأخذها إلى المحرقة بعد تجربة مريرة مع الحكم انبرى لها الجميع متصديا ومتحفزا لكل خطوة تقوم بهاكما هو الشان في الموقف من قانون العزل السياسي الذي طرح أثناء حكم الترويكا. ولعله حان الأوان لتترك النهضة لكل الفاعلين السياسيين، بما فيهم الاتحاد العام التونسي للشغل والأطراف الدائرة في فلكه المجال فسيحا ليعبّروا عن مواقفهم من المشروع بعيدا عن حالة التجاذب السياسي التي نتج عنها تمرير مشروع قانون تحصين الثورة، وان كانت المسألة الوطنية أعلى شأنا من الحسابات الضيقة، التي قد تكون صحيحة او نتيجة سوء تقدير للتوازنات السياسية في البلاد، فان اغتيال الحياة السياسية وانتشال الحزب الحاكم من أزمته الوجودية والهيكلية لا يمكن أن يُبرَّرَ.
وفي كل الأحوال هناك أكثر من سؤال بات يلح على النهضة لاسيما إذا ما صوت نوابها في المجلس على هذا المشروع:
هل فقدت دورها في حماية استحقاقات الثورة؟ هل يبقي لها دور لتتصدى للمنظومة القديمة ؟ هل باتت عودة المنظومة القديمة أمرا واقعا ينبغي التعاطي معه مهما كانت السبل؟.
أسئلة كثيرة نتائجها اخطر من مقدماتها. والواقع فان مؤشرات عديدة تذهب في اتجاه ما صرح به النائب عن حركة النهضة من أن التعايش الحالي بين النهضة والنداء مرشح أن يتحول إلى تعايش استراتيجي.
وسياسيا، فان المشروع ساهم في بعث نوع من الروح في صفوف المعارضة بعد حالة الانكماش التي أصابتها منذ الانتخابات الأخيرة. وهنا يُطرح أكثر من تساؤل هل ستتخلص المعارضة من أنانيتها الضيقة و تتجاوز حالة المراهقة السياسية التي تعيشها إلى ما يخدم القضية الوطنية أم أنها ستبقى أسيرة أطماعها الوهمية فيما بات يسمى بالصراع حول تزعم المعارضة.
في الواقع الإشكاليات المطروحة أمام هذا المشروع لا تتوقف على ما ذكرناه سابقا، انه يطرح إشكاليات تنم عن ضعف في الصياغة أو تخبط في السياسة، أو عجز في التصور وهي في كل الأحوال مصدرا لأكثر من سؤال: كيف نفسر تجاهل واضعي هذا المشروع تحديد المدة الزمنية للجرائم المشمولة بالعفو ؟ هل أن الموظف الذي ارتكب جريمة الاستيلاء على المال العام أو جريمة فساد مشمول بالعفو مهما كانت الفترة التي تورط فيها بالفساد؟ كيف يمكن للمورطين في الفساد أن يقدموا طلباتهم للجنة المصالحة في ظرف شهرين من تكوينها والحال أن عدد الملفات قد يتجاوز ما يمكن أن تستوعبه هذه المدة ؟ ما هو مصير لجنة الفحص الوظيفي وإصلاح المؤسسات التي نص عليها الفصل 43 عن قانون العدالة الانتقالية والذي بموجبها ستقوم اللجنة بتحديد مصير كل متورط في الاستيلاء على المال العام على أساس التوصيات التي ستصدرها في حقهم سواء بالإعفاء أو الإقالة أو الإحالة على التقاعد الوجوبي؟ لماذا لم يتم عرض هذه الملفات بعد على هيئة الحقيقة و الكرامة والحال إذا فهمنا جيدا هذا المشروع، فان المتورطين في الفساد المالي و الاقتصادي قد يكون عددهم بالمئات، هل هناك حينئذ تواطؤ بين الحكام الجدد و بارونات الفساد ؟كيف نفسر التعارض مع المرسوم الإطاري المتعلق بمكافحة الفساد وتجاهل الهيئة الوطنية لمكافحته؟
أسئلة كثيرة يصعب حصرها، ونحن على يقين أن تقرير لجنة البندقية وقرار الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية القوانين سيكشفان حقيقته.
وأخيرا، أي مستقبل لمشروع قانون المصالحة الاقتصادي والمالي؟
خاتمة
إن ضرب هيئة الحقيقة والكرامة بات أكثر من أي وقت مضى مطلبا من قوى داخلية. فمنذ الإعلان عن هذا المشروع فقدت هيئة الحقيقة و الكرامة الكثير من مصداقيتها والإقبال عليها بات خاضعا لكثير من الحسابات. ذلك أن الكثير من المتورطين في الفساد وهم في طريقهم للهيئة لطلب المصالحة يشعرون اليوم أن حبل النجاة قد مدّ إليهم.
والضرر حاصل أيضا على مستوى الالتزام الزمني الذي من المفروض أن تنجز فيه هذه الهيئة مهمتها، وبات اليوم من الصعوبة بمكان احترامه والعقبات ما انفكت توضع أمامها. وهو ما يجعلنا نتساءل إذا لم يكن المبادرين لهذا المشروع قد أوقعوا انفسهم تحت طائلة الفصل 66 من قانون العدالة الانتقالية الذي يعاقب بالسجن كل من يعيق عمل الهيئة.
تبدو الخيارات المطروحة أمام هذا المشروع محدودة جدا: إما سحب المشروع نهائيا و ترك المجال واسعا أمام هيئة الحقيقة والكرامة لتقوم بدورها على الوجه الأكمل، على أن تُوفر لها كل الإمكانيات. وإما الإصرار على تمريره بكل السبل في محاولة لإنقاذ ماء وجه الرئاسة في أول مبادرة من نوعها تقوم بها على أن يتم إفراغه من محتواه و تنقيته من الشوائب التي فيه وهو أمر مستحيل. وأما الإصرار على تمريره كما هو، و انتظار قرار الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية القوانين بعد أن يتم الطعن فيه من قبل نواب المجلس. حينها تكون الهيئة أمام اختبار حقيقي بخصوص مصداقيتها واستقلاليتها: إذ لا يعقل أن تقبل بتحول ملفات الفساد إلى لجنة حكومية و الحال أن أهم أعضائها من القضاة و من المستبعد أن يتنازلوا عن دورهم في سعيهم لإرساء العدالة مهما كان حجم الضغوط أو أن تقبل الهيئة على نفسها انتهاك الدستور، والحال أنها أثبتت إلى حد الآن قدرة فائقة على التصدي إلى كل محاولات الالتفاف عليه.
وفي كل الأحوال فنحن أمام أمر من اثنين: إما أن يكون الرئيس الحالي أمام فرصة لتجسيد ديمقراطية حقيقية لا تمت بصلة الى ماضي الاستبداد. أو أن يكون الشعب أمام درس آخر من دروس فرض الاستبداد وحماية الفساد ومكافأة المفسدين وتضييع آخر ما تبقى من استحقاقات الثورة التونسية.
* مركز الدراسات الاستراتيجية والديبلوماسية