يعتبر مفهوم الحق أحد أبرز المفاهيم المتداولة في العهود الأخيرة، والذي أصبح يشكل معيارا أساسا في تحقيق شرط الديمقراطية، التي من مبادئها مراعاة حقوق الأفراد والجماعات، فأنشأت لذلك مؤسسات عالمية لصياغة جملة من الحقوق قصد إقرارها في السياسات الدولية، كطريقة لعولمة الجانب الحقوقي داخل النظام العالمي، ومازالت هذه الحقوق المقرَّرة تأخذ لنفسها الاعترافات تلو الأخرى، حتى أخذت صفة تعاقد جماعي يستمد قوته من شرعيته الجماعية، وينزل حكمه على مقتضى اللزوم والوجوب.
وهنا تطرح إشكالية الخصوصية في ماذا القدرة على تحقيق مقاربة سليمة بين المجال العام الحقوقي العالمي والشأن الخاص بالنسبة للأفراد والجماعات، وذلك إما عن طريق البحث عن مستند شرعي لها، باعتبار أن الحقوق مجال مشترك بين الديانات السماوية، أو التعامل معها بالرفض باعتبار تصادمها مع المضمون الشرعي، إلا أنه رغم إقرار جانب حرية الفرد كمبدأ أساس لحفظ كرامة الإنسان، فإن هذا المجال بدأ يضيق باتساع المجال الحقوقي العام الذي أصبح يدخل على المعتقدات والثقافات وكل ماله شأن خاص، وذلك في سبيل تنميط الإنسان كرؤية مستقبلية لعالم الغد.
ومن ثمة تأتي ضرورة بناء المسلم وفق رؤية تأخذ من العمق الإنساني محل عملها، وذلك عبر حفريات داخلية تنفذ بقوة سلطانها ونجاعة وقعها، لتعيد بناء الإنسان عن طريق ملابسة حقيقية للأحكام الشرعية، وتعلق صادق للقلب بالأخلاق المحمدية، كأساس لترسيخ المسلم بقيه المثلى وإنسانيته الحقة، خصوصا ونحن في سياق يعرف زعزة لليقينيات الذي ينبغي أن يجابه بما يفوقه قوة، من خلال عمل تربوي متجدر في كيان المسلم، يشكل هويته ويستولي على شعوره مما لا يدع مجالا لغيره في أن يحل محله، وذلك عن طريق ممارسة صوفية حية، تنزل بالسالك في رحاب مقامات القرب وصفاء اليقين، وتنعكس فيها إشراقات الباطن على سلوكيات المؤمن الظاهر، تعطي رؤية متجددة للعالَم كقبضة من نور الإيجاد للخالق الحق سبحانه، ومظهر للجمال الذي يأخذ من شعور العبد إقرار الفضل وإيجاب الشكر على الإنعام.
المنظور القانوني:
ذهب فقهاء القانون في تحديدهم لمفهوم الحق على أنه مجموعة من القواعد التي تنظم الروابط الاجتماعية بين الأفراد، وهذا التنظيم يقوم على بيان حقوق الشخص وواجباته في علاقاته مع غيره من الأشخاص، بالإضافة إلى ذلك فإن نظرية الحق “جرت العادة في دراستها على العناية بصفة خاصة بالحقوق المالية” [1]، وتخضع في مبادئها كما هو شأن جميع الأحكام التشريعية إلى فكرة الإلزام باعتبارها القاعدة الأساسية في تسييج الفعل الإنساني ضمن المقررات القانونية، والإعتماد على الجانب القانوني في ضمان مساحة من الحقوق بالنسبة للأفراد والجماعات، لا يمكن أن يشكل إلا جزءا من حاجيات الإنسان في متعلقاته المتشعبة، كما أنه يفقد القدرة على ملامسة الجانب الوجداني للإنسان الذي هو منطلق الأفعال الإرادية، ومن ثمة يغيب مفهوم الحق كمبدإ إنساني يحركه الوازع الأخلاقي، الذي يستمد قوته من الرقابة الداخلية في استحضار الرقيب الأعظم، والذي يحدث في القلب شعورا نحو ممارسة الحق بِدَاعِ المحبة والوفاء دون قهر أو إكراه.
المنظور الفقهي:
كما ذهب علماء الفقه الإسلامي في مقاربتهم لمفهوم الحق باعتباره جوهر التشريع وأساسه، وذلك بتفصيل مفهوم الحق بما يلزم لله تعالى من حقوق والآدمين من تعهدات، على أن هذا التقسيم يستند في جوهره إلى قيمتي عظم الجزاء والعقاب، وذلك نحو تحديد مراتب المسؤولية المترتبة على العباد من خلال تصرفاتهم، “فحق الله ما قصد به التقرب إلى الله تعالى وإقامة شعائر أو تحقيق النفع العام للعالم من غير اختصاص بأحد من الناس، وينسب إلى الله تعالى لعظم خطره وشمول نفعه، أي أنه حق للمجتمع” [2]، وحق الإنسان أو العبد “ما قصد منه حماية مصلحة الشخص سواء أكان الحق عاما كالحفاظ على الصحة والأولاد والأموال…أم كان الحق خاصا كرعاية حق المالك في ملكه” [3]، وهنا يأخذ الحق قوته ولزوميته باعتبار تعلُّقِه بالصالح العام، لما تحتله الجماعة من قيمة داخل المنظور الإسلامي، حتى عُبِّرَ عنها بأنها حق “الله”، مع الإقرار بأن الحقوق هي كلها لله تعالى، إلا أنه يبقى هناك جانب حقوق الباطن التي هي مصدر الفعل الظاهر غير محررة بشكل كبير وفق المنظور الفقهي، فنحتاج إلى مرتبة من مراتب ممارسة الحق كشعور تفاعلي يأخذ بكلية المسلم بأبعاده الباطنة والظاهرة.
المنظور الصوفي:
وتمتاز المقاربة الصوفية في ممارستها لمفهوم الحق بخصائص متنوعة، من منطلق العمل على مستوى العمق الوجداني في تفاعله مع الخطاب الإلهي، يتنزل بموجبه العبد إلى إدراك أبعاد الحق وفق حركية متجددة تصحب السالك بارتقائه الروحي وحفرياته الذاتية، تتحول من خلالها الأشياء في رؤية العبد على أنها معان قيمية تستوجب مراعاة حقها بالنظر إلى إشاريتها للعالم المطلق، وهذا العمق الوجداني الذي يتحصل لدى الصوفي، هي التي تعطي لمفهوم الحق أبعادا تفاعلية يتكامل فيها الجانب الغيبي والواقعي، ويأخذ فيها مفهوم الحق بعده الشمولي، وعلى هذا الأساس يمكن إجمال خصائص الحق من منظور صوفي في ثلاث أبعاد.
*البعد ألعُمقي: ذهب الصوفية إلى اعتبار الأفعال الإنسانية إنما هي صور تعكس الجانب الباطني للعبد، وهو ما يقتضي توجيه الاهتمام نحو المجال الباطني للإنسان حتى تَؤمَن التصرفات من أن تجنح عن غير ما قصد لها من نية التقرب إلى نيل الحظوظ الزائلة، ولن يكون ذلك إلا بمراعاة كل ما يرد على القلب وتمحيصه وفق رؤية أخلاقية تضبط سيرورة تشكل الفعل الإنساني منذ بدايته، وذلك عن طريق العمل على تحرير جوانب القصود والنيات، وتمحيص الخواطر بما لا يخرج عن الإرادة الشرعية، يقول المحاسبي: “فأول منزلة من الرعاية وأهلها أقوى الخلق في الرعاية لحقوق الله عز وجل، الرعاية عند الخطرات بعد اعتقاد جمل من حقوق الله، فلا تخطر بقلبه خطرة من أعمال قلبه إلا جعل الكتاب والسنة دليلين عليهما، فلم يقبلها باعتقاد…إلا أن يشهد له العلم أن الله عز وجل قد أمر بها وندب إليها أو أذن فيها” [4]، وهو ما يستدعي عملا تصحيحيا على مستوى حركة القلب وتوجيهها إلى العمل وفق الإرادة الشرعية وما تقتضيه المطالب الأخلاقية، فتتحد إرادة المكلف مع إرادة الشارع وإلا كانت الممارسة التعبدية خارجة عن إطار ما شرع لها من نية التقرب والامتثال لله عز وجل إلى نيل الحظوظ النفسانية.
إن هذه الرعاية التي عمل الصوفية على تحقيقها على مستوى العمق، تُظهر بما لا يدع الشك، قُوة العمل الإصلاحي الذي ينشده الصوفية، نحو صياغة الإنسان بأبعاد تربوية أخلاقية، تحدث في السالك ولادة جديدة يتنسم وجودها في رحاب رقي الإيماني، فيخضع كيان المتقرب لعملية تجديد حقيقية، سبيله في ذلك الوفاء بالعهود الإلهية والقيام بالسنن النبوية، بما يفضي بالمريد إلى أن يكون مثالا دالا بجملته على الأوصاف التشريعية كما تمثلها الرسول الأعظم عليه أفضل الصلاة والتسليم.
وتعد النظرية المقاصدية للإمام الشاطبي إنما هي بلورة للمعالجة الصوفية في مجال تمحيص جانب القصود والنيات، بإعادة الاعتبار للجانب الأخلاقي داخل الدرس الأصولي، باعتبار أن الجوانب الداخلية في شعور المؤمن، تُعَد مصدرا لأفعاله الظاهرة.
*البعد التكاملي: إن الاستغراق في العمل التعبدي لدى الصوفي يلقي بسلطانه على جوانحه، فيصبح نظره يتشكل وفق رؤية قيمية للأشياء، فالأشياء ليست عناصر منفصلة عن الذات، بل هي خطابات إلهية مقصودة تختلف الإستعدات في تلقيها، فيغدوا لعالم الغيب حضورا واقعي في شعورهم، بحيث إن تعاملهم معه في كل مدارج سلوكهم مُزامِن لتعاملهم مع عالم الشهادة، باعتبارهما وجهين يدلان على حقيقة واحدة، فكلما استغرق هذا الشعور الروحي الصوفي إلا وضَعُفَ مجال الحسيات عنده وتأثيرها فيه، إلى أن يندرج الكل في عالم معنوي روحي واحد.
وذلك أن التصرفات السلوكية عند الصوفي تتحول في مجملها إلى ممارسات تعبدية، باعتبار حضور نية التقرب للمولى عز وجل التي تكون مصاحبة للسالك في شأنه كله، فرعاية حقوق الأشياء عند الصوفي يستمد قوته من الجانب المعنوي الذي يستولي سلطانه على جوانحه، يقول ابن عطاء الله: “الكون كله ظلمة وإنما أناره ظهور الحق فيه، فمن رأى الكون ولم يشهده فيه أو عنده أو بعده، فقد أعوزه وجود الأنوار، وحجبت عنه شموس المعارف بسحب الآثار” [5]، وبعد أن يتعرف الصوفي على الأشياء بموجدها، لا يبقى له إلا النظر في أحكامها فيها، ويعمل بمقتضى حقوق الخالق عليه فيها، فأهل الولاية يراعون الأشياء بمقتضى نسبتها إلى الخالق، فينزلونها إلى مرتبتها التي تستحقها، كما يتعبدون الحق من خلال تعاملهم مع الخلق، وهو البعد التكاملي لرعاية الحقوق عند أهل التصوف.
*البعد الشمولي: وهو أن جانب الحق من المنظور الصوفي يأخذ أبعادا شمولية، ينطلق من ذات السالك بتحققه بالأحكام الشرعية التي تشمل جميع تصرفاته، وذلك بتعميل جانب الحق كوفاء بالتعهدات الإلهية، والمطالب الأخلاقية التي جاءت البعثة المحمدية لتكميلها، وهو الشيء الذي انبرى له أهل التصوف، من منطلق قوله تعالى: ﴿والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا﴾ العنكبوت 69. وقوله تعالى: ﴿ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة وجاهدوا في سبيله لعلكم تفلحون﴾ المائدة 35. فمسلكهم هو التحقق بالعمل الشرعي كسبيل للتعرف على المولى عز وجل والتخلق بأوصافه، “فبرسومه يعرف العبد نعوته، وبنعوته يعرف ثبوته” كما قال القشيري [6]، وقال أحد الفضلاء “لن يصل إلى قلبك روح المعرفة وله عليك حق لم تؤده”، فإذا استوفى السالك حقوق ربه في نفسه، كان ذلك داعيا لأن ينعكس على من حوله، كرؤية للوجود على أنه أثر للإرادة التي اقتضتها الحكمة الإلهية، ﴿وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم﴾ الإسراء 44. ورؤية للإنسان كسر من أسرار اللطف الإلهي بما يلزم تقدير حقه وحفظ حُرمته، فكل أدب أو خلق شرعي إلا ويطلب حقه من العبد من أجل رعايته في النفس أو نحو الغير، قال النبي : “كل سلامى من الناس علية صدقة كل يوم تطلع فيه الشمس، تعدل بين اثنين صدقة، وتعين الرجل في دابته فتحمله عليها أو ترفع له عليها متاعه صدقة، والكلمة الطيبة صدقة، وبكل خطوة تمشيها إلى الصلاة صدقة، وتميط الأذى عن الطريق صدقة” [7].
إن هذه الرؤية القيمية التي تتشكل لدى لصوفي، تؤهله إلى تلقي خطابات في النفس وفي الآفاق تطلب حظها من الوفاء وحقها من الالتزام، بموجب تحقق معنى العبودية عند المتقرب، وهنا تكمن أهمية التجربة الصوفية كمنهاج تربوي ينطلق من العمق الإنساني، بتغيير صفات النفس وتحليتها بفضائل الأخلاق، يُصبح معها السالك نموذجا لشريعة مفعلة، ونبراسا لسنة حية.
الهوامــــــــش:
[1] – أحمد محمود الخولي: نظرية الحق بين الفقه الإسلامي والقانون الوضعي، دار السلام، الطبعة الأولى 1423ﻫ/2003م، ص20.[2] – وهبة الزحيلي: الفقه الإسلامي وأدلته، دار الفكر، الطبعة الثانية 1405ﻫ/ 1984م، 4/13.
[3] – نفس المرجع، 4/14.
[4] – الحارث المحاسبي: الرعاية لحقوق الله، تحقيق عبد الحليم محمود، دار المعارف، الطبعة الثالثة، ص87.
[5] – ابن عطاء الله: الحكم العطائية ضمن مجموع رسائل ابن عطاء الله السكندري، تحقيق وتقديم سعيد عبد الفتاح، مكتبة الثقافة الدينية، ط الأولى 1430ﻫ/2009م، ص106.
[6] – إمام حنفي: الآراء الكلامية والصوفية عند القشيري، مكتبة الثقافة الدينية، الطبعة 1426ﻫ/2006م، 1/135.
[7] – صحيح مسلم، باب الزكاة، بيان أن اسم الصدقة يقع على كل نوع من المعروف، رقم 1009.
مركز الإمام الجنيد للدراسات والبحوث الصوفية المتخصصة