ما كان يشكل ديكورا حزينا للغير، في دوار الهلالات 2 بإقليم مديونة، على أطراف حقول واسعة ومنبسطة تمتد إلى بعيد بهذا الإقليم، كان بالنسبة لـ”مي تودة” فردوسا جميلا تؤثثه اللُحمة بين الجميع، في سياق زمني يزيد عن 40 سنة.
لم يكن شيء يجذب لدوار الهلالات 2، أرض مغبرة تتخللها أغصان جافة وبقايا تبن متناثرة في كل الأرجاء، بضع بقرات تقتات وتخور،وأشجار معدودة تحيط بالفضاء، وثلة من الأطفال يلهون بالجوار.
وللزائر أن يمسح بعين متفحصة ومتسائلة، الفضاء البسيط للدوار، حيث السكان يواصلون درب الحياة على هذا النحو، ويستقبلون الوافد عليهم بابتسامات تنم عن عفوية صادقة.
إن دوار الهلالات 2 حيث تسكن “مي تودة” والذي زاره موقع “مشاهد 24” لرصد حياة هذه الجدة، ذائع الصيت لدى سكان الإقليم والمحيط، حيث يلجأون لـ “مي تودة” للتداوي من الآلام والكسور، في غنى تام عن إسعافات الأطباء والأدوية الكيماوية، فالإيقان بخبرة “مي تودة” التي ولَدت 114 امرأة، واكتفت بتوليد نفسها 16 مرة دون الحاجة إلى “القابلة”، كافيا للتسليم بنجاعة علاجاتها وإشرافها على المرضى والمصابين بالجروح والكسور والحروق، صغار منهم وكبار.
ويتكون دوار الهلالات 2 من مجموعة أبنية بسيطة للغاية، مزروعة هنا وهناك، وعند بداية زقاق رئيسي ضيق، يتوصل إليه الزائر مجرد ولوجه الدوار، وبعد تجاوزه لأكوام تبن متراصة بالمحاذاة، يوجد بيت “مي تودة”، الصغير والمتواضع، حيث تستولي القناعة على حياة هذه الجدة وهي تتعايش مع أبنائها العشرة وأحفادها وجيرانها في أجواء اجتماعية منسجمة، صار من النادر مصادفتها في أمكان أخرى.
إن بيت “مي تودة”، عبارة عن فضاء مقسم لغرف صغيرة، يفصل بينها ممر طويل، يجده حفدتها، مجالا للعب فيه، وفي إحدى هذه الغرف، استقبلت “مي تودة” موقع “مشاهد 24″، بابتسامة عميقة، تجسد أن المرأة فعلا تملك ما يكفي من الخبرة في الحياة، حتى لا تلقي اللوم عليها لأي سبب من الأسباب، وفي بساطتها استطاعت أن تزاول مهنة “القابلة” منذ الستينيات، حين كانت القرى تنأى عن الحواضر بمسافات طويلة غير معبدة، وحين كان الوصول إلى المستشفى من المطامح الصعبة آنذاك، لتكون “مي تودة”، المرأة الخبيرة في التوليد، بالفطرة والتجربة لاحقا، موضع مطلب للنساء، وسبب خلاص من مخاض مؤلم، كانت تنهيه “مي تودة” باستعمال بعض الأعشاب المطبوخة في الماء.
وتروي “مي تودة” لموقع “مشاهد 24” كيف أنها تعلمت توليد النساء وهي صغيرة حين كانت تقطن بمدينة الجديدة، وكيف أن مخالطة النساء الأمازيغيات آنذاك، كان له دور في صقل هذا الدور بكل حماس، حتى أصبحت “مي تودة” محط اهتمام كل النساء المقبلات على الولادة، تنتقل إليهن كل مرة في بيوتهن لمتابعة أوضاعهن إلى حين موعد الإنجاب.
وتستحضر “مي تودة” قدرتها على تمييز وضعية الجنين في بطن أمه، وتدارك بعض المخاطر في أحيان كثيرة، لتكون عملية التوليد يسيرة على يدها، تكلل بالنجاح دائما، لتزداد ثقة “مي تودة” في مهمتها الإنسانية، التي قادتها لأن تُولد نفسها دون الحاجة إلى “القابلة” 16 مرة.
كانت “مي تودة” تتمتع بشعبية كبيرة لدى النساء بمدينة الجديدة، قبل أن تنقل خبرتها إلى إقليم مديونة وتخوض تجارب أخرى، مع نساء وجدن فيها الأم الراعية، خاصة أن الزواج في السبعينيات كان مبكرا لدى الفتيات، فكانت رعايتهن تستدعي حرصا أكبر، في خضم الظروف الاجتماعية البسيطة وغياب البديل، وضعف المعرفة بالأمور، حسب رواية “مي تودة” التي ارتأت أن تحفظ خبرتها على النحو الذي يضمن سلامة النساء ويحقق نجاح مهمتها.
وتذكر “مي تودة” أن ماضيها كان حافلا بالقصص المثيرة مع النساء الحوامل، ولم تصادف منذ الستينيات، مشكلا ينغص مهمتها أو يفقد الثقة في خبرتها، وترجح ذلك، إلى القدرة الإلهية ونباهتها في تصحيح بعض الاحتمالات، حتى تكون المرأة الحامل بصحة جيدة قادرة على سماع الصرخة الأولى لرضيعها.
ولأن “مي تودة” تُقدر عمرها الآن بما يتجاوز 80 سنة، حيث تتذكر جيدا المغفور له الملك محمد الخامس، وجدت قبل 17 سنة من الآن، في رعاية المرضى أطفالا وشبابا وكهولا، سببا آخرا لمتابعة الحياة بالقناعة ذاتها التي جعلتها مبتسمة دائما في وجه الجميع، حتى في وجه “الزمن” الذي يقسو عليها في العديد من المرات.
فاليوم “مي تودة” تجد نفسها معنية برعاية زوجها الذي بلغ من الكبر عتيا، لكن دون أن تتوانى لحظة، عن علاج مرضى الربو والحساسية، والمصابين بالحروق والكسور، مستعينة بأعشاب خاصة تجلبها من جنوب المغرب بعناية، تضمد بها مواضع الألم بإيمان كبير، أن الشفاء من عند الله، وأنها امرأة تضع الأسباب لذلك.
ويكفي الزائر أن يطرق بيت “مي تودة” الذي يتقدم باقي بيوت دوار الهلالات 2، بإقليم مديونة، حتى تفتح بابه مبتسمة، بترحاب، يعكس أن هذه الجدة تحمل مشاعر إنسانية جميلة، تترجمها بالضيافة في غرفتها البسيطة، بطعم شاي فريد وخبز شعير خاص.