منذ الجلطة الدماغية التي تعرض لها الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة أواخر إبريل 2013، يعيش النظام الجزائري مخاضا حادا بين مختلف أجنحته ومكوناته. صراع تتلاحق فصوله تحت عنوان عريض هو: ترتيب انتقال السلطة في “جزائر ما بعد بوتفليقة”، وهو ما يخلف ركاما من التكهنات المتناقضة، في ظل غياب رؤية واضحة لمستقبل الجزائر عند الطبقة السياسية برمتها، ناهيك عن المواطن العادي، ويفتح الساحة الداخلية على آلاف التأويلات والشائعات، في انسجام مع ثقافة النظام “السوفييتية” التي تعتبر المعلومة حكرا على عدد محدود من “رجالات الدولة” الذين يتحكمون بزمام الأمور فيها.
وجاءت إقالة رئيس المخابرات العسكرية، “رب الجزائر” و “صانع رؤسائها” الفريق محمد مدين المدعو “توفيق” لتخلط مزيدا من الأوراق، وتطلق موجة جديدة من التكهنات والشائعات، المختلط معظمها بالأماني الشخصية لأصحابها أكثر من كونها مبنية على معلومات موثقة، تغيب الآن إلا عن حفنة من العالمين ببواطن الأمور. وحتى لا نسهم بدورنا في الخوض في التكهنات المتناقضة، آثرنا الإشارة السريعة إلى بعض الحقائق التي يوجد شبه إجماع على صحتها، لعل ربطها ببعض يقرب المتابع من فك خيوط ما يجري في أروقة قصر المرادية ومقري هيئة الأركان والمخابرات العسكرية:
للمزيد: سقوط “الجنرال توفيق”..نهاية الأسطورة
• النظام الجزائري نظام كان حتى وقت قريب متعدد الأقطاب أو “مراكز القوى”. تعرض على مدى تاريخه منذ الاستقلال، لتحولات كبرى أنهت احتكار الجيش للقوة أوائل التسعينات، عبر إدخال جهاز المخابرات العسكرية بقيادة الفريق توفيق كقطب مواز، وساهمت فترة حكم الرئيس بوتفليقة في صناعة وتكريس قطب ثالث هو رجال الأعمال بواسطة شقيقه الأصغر السعيد بوتفليقة. وبين هذه الأقطاب، تدور معركة شد الحبل منذ عامين على الأقل، دون أن تحسم لحد اللحظة لمصلحة طرف ما، أو الاتفاق على قواعد دائمة لتقاسم النفوذ.
• بإقالة الفريق توفيق بعد توزيع جميع صلاحيات جهازه تقريبا إلى القطبين الآخرين، مع غلبية واضحة للقطب الأول المتمثل في هيئة الأركان برئاسة الفريق أحمد قايد صالح، يكون قطب المخابرات قد خرج أو يكاد من صورة معادلة القوة، وأصبحت المعادلة ثنائية مرة أخرى. وهكذا يوجد للجزائر قطبين حاليا: السعيد بوتفليقة وأحمد قايد صالح، دون التوفر على يقين بخصوص العلاقة بينهما.
• الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة هو شخص “عاجز” لا يملك من أمره الشيء الكثير، وأن كل ما يصدر باسمه من قرارات هو ممكن بفضل السلطة التي يمتلكها “المنصب” وليس “الشخص”. ويعتقد إلى حد بعيد أن جميع صلاحيات المنصب هي تحت تصرف الشقيق الأصغر السعيد، دون إغفال بعض الأدوار للشقيق الأوسط ناصر، عبر توزير بعض المقربين منه حفاظا على نصيبه من السلطة.
• الفاعل الداخلي في معادلة السلطة الجزائرية ليس الوحيد، بل هو الأضعف في نظر معظم المحللين، حيث يحضر الفاعل الخارجي المتمثل بفرنسا أساسا والولايات المتحدة بدرجة أقل، كممسك بخيوط اللعبة، أو موجه لها، أو مؤثر فيها، وذلك عن طريق رجالاته الموالين له داخل قطبي السلطة: القصر والجيش. النفوذ الفرنسي المعبر عن نفسه بواسطة “حزب فرنسا”، كما درجت الأدبيات الجزائرية على الإشارة، قديم قدم الاستقلال بل قبله بسنوات، وقد عبر عن نفسه على مدى عقود عبر رجالاته في مؤسسة الجيش، وبلغ أوج نفوذه في سنوات الثمانينيات والتسعينيات مع جنرالات نافذين من قبيل خالد نزار و محمد العماري و عباس غزيل و اسماعيل العماري و محمد مدين و العربي بالخير و محمد التواتي وآخرين. نفوذ تمدد في السنوات الأخيرة ليشمل “طبقة رجال الأعمال” المحيطة بالسعيد بوتفليقة، دون أن يعلم على وجه اليقين ما إذا كان السلوك الفرنسي هو “تبديل للخيول” أم توسيع وتنويع للنفوذ، مع ترجيح الفرضية الثانية. وتبعا لهذا النفوذ المتعاظم للفاعل الخارجي على حساب الداخلي، يعتقد كثير من الجزائريين أن بلادهم لم تنل استقلالها الحقيقي حتى الآن.
إقرأ أيضا: أيُّ دور للجيش الجزائري في التغيير المنتظر؟
• الزيارات المتكررة للقادة الفرنسيين من المستويات السياسية والأمنية، يهدف إلى إدارة أزمة انتقال الحكم بعد الرئيس بوتفليقة، في محاولة للحفاظ على نفوذها ومصالحها من جهة، وللحيلولة،من جهة أخرى، دون تعرض الجزائر لمصير مشابه لما يحدث في مصر وتونس وليبيا، وضبط ما قد يتحول إلى فوضى عارمة في حال انفجر غضب الشارع قبل استكمال عملية الانتقال “المدروس”. أما الزيارات الأمنية الأمريكية، فتبدو على الأغلب منشغلة أكثر بضبط المساهمة الأمنية الجزائرية في “معركتها ضد الإرهاب”. وتجد زيارات مسؤولي كلا البلدين، ترجمتها عادة في القرارات الداخلية التي تتخذ في أعقابها!!
• الفساد في الجزائر حقيقة كبرى لا يشكك فيها مواطن واحد، إلا أن مداه هو أكبر بكثير مما تسمح بمعرفته “الحرية” الصحفية المتاحة، والمسيطر عليها بواسطة جهاز المخابرات حتى وقت قريب، وانتقلت وصايتها لهيئة الأركان مؤخرا. فساد لا يستثني أحدا ويشمل: محيط الرئيس من طبقة رجال الأعمال، والحكومة وصفقاتها العمومية، والجيش وصفقات السلاح المليارية، والمخابرات بأذرعها الطويلة التي كانت منتشرة في كل مكان.
• في ارتباط مع ذلك، وخلافا لما يروج من كون مصدر قوة الفريق “توفيق” هو ما يملكه جهازه من ملفات على فساد الرئيس ومحيطه، فإن امتلاك “ملفات ثقيلة” هي ميزة متاحة لأقطاب السلطة الثلاثة، وترتبط بالفساد الكبير الذي تحدثنا عنه آنفا، بما فيها ما يملكه محيط الرئيس ورئيس الأركان من ملفات حول مجازر جهاز المخابرات في حق الشعب الجزائري خلال “العشرية السوداء”، وما أسسوه من فرق لإرهابهم، وما صنعوه من جماعات “إسلامية” مسلحة، أدامت لهم السيطرة، وهي ملفات كفيلة، لو لم يُقدم لأصحابها “شبكة أمان رئاسية”، كما حصل مع اللواء بشير طرطاق، خليفة توفيق، وغيره، بتقديم أصحابها الجنرالات النافذين إلى محكمة الجنايات الدولية.
• التغيير الأهم في جهاز المخابرات العسكرية اكتمل قبل خبر إزاحة رجله القوي الفريق مدين إلى الظل، وكان واضحا أن جميع صلاحياته تقريبا قد ألحق بأحد القطبين الآخرين: الرئاسة وهيئة الأركان. الرئاسة عبر وزارة الداخلية ورجلها في الأمن الوطني اللواء عبد الغني الهامل، ورئاسة الأركان في شخص رئيسها قايد صالح وأجهزته المختلفة. أما إزاحة توفيق بحجة التقاعد واستبداله بمتقاعد آخر من نفس الجهاز، فلا تعتبر تغييرا بالمعنى الحقيقي للكلمة. فطرطاق، أو “وحش بن عكنون” (نسبة لمقر جهاز المخابرات في بن عكنون)، كما يسميه الذين اكتووا بناره، هو الخليفة الطبيعي لتوفيق بعد اختفاء اللواء مهنا جبار ومجايليه، وهو مدير سابق للأمن الداخلي، المصلحة الأهم في المخابرات، وهو رئيس “فرقة الموت 192” وبالتالي لا يقل “دموية” عن سلفه المقال، بالنسبة لمعظم الجزائريين. وقد بخّر اختياره أية أوهام قد تكون ساورت البعض من حصول تغيير في عقيدة المخابرات. ويبقى العزاء بالنسبة للمصدومين من القرار، في كون الجهاز فقد صلاحياته الأخطبوطية ولم يعد ممكنا له لعب نفس الدور المرعب في حياتهم، في انتظار معرفة سلوك الأجهزة التي ورثت هذه المهام في الأمن والجيش.
• ما يجري منذ عامين، وإن حاول البعض الترويج لكونه عبارة عن عملية تحديث وتطوير للمؤسستين الأمنية والعسكرية، هو بالنسبة للجميع تقريبا عبارة عن تجاذب شرس بين أجنحة السلطة المختلفة، وإعادة تعريف جديدة لموازين القوى وحدود الهيمنة بينها، وتجديد “لأدوات” فرنسا في الجزائر في محاولة لتفادي انفجار الأوضاع على غرار مصر وتونس. صحيح أن بعض الجنرالات من كبار السن يحالون على التقاعد، لكن عشرات منهم لا تزال مستمرة في مهامها، رغم تجاوزهم سن التقاعد المحدد في 64 عاما بالنسبة لمن هم في رتبة لواء، و56 سنة لمن هم في في رتبة عميد (جنرال)، من رأس الهرم الفريق أحمد قايد صالح، مرورا بقادة القوات كاللواء احسن طافر، وانتهاء بألوية المخابرات والحرس الجمهوري وغيرهما. وما تعويض متقاعد (توفيق) بمتقاعد (طرطاق) إلا دليل على تهافت رواية التحديث.
• المعارضة السياسية في البلاد إما عاجزة أو مدجّنة، وهي تعمل بإشارة من أحد قطبي السلطة، وثقة الشعب فيها في أضعف حالاتها، ويصعب تصور قدرتها على تحريك الشارع أو تقديم بديل جاهز للمتحكمين في دواليب الحكم أو طريقتهم البالية في الإدارة. وينطبق هذا القول على المعارضة بجميع أطيافها، إسلامية وعلمانية، قومية وليبرالية.
• الأزمة الاقتصادية الحالية التي تعيشها البلاد هي أزمة حقيقية. وإذا صدقت التوقعات باستمرارها إلى العام المقبل دون تغيير حقيقي في أسعار النفط، مورد البلاد الوحيد، كما تشير إلى ذلك معظم التوقعات الاقتصادية، فإنها ستعيد البلاد إلى دوامة الاستدانة الخارجية، مع الشك في قدرة الحكومة، بتركيبتها وعقيدتها وآليات اتخاذ القرار فيها، على مواجهة هذه الأزمة والتعامل معها ناهيك عن التغلب عليها، حيث أن لوبي الفساد المتقوي بمراكز القرار في السلطة في غير وارد تبديل سلوكه الفاسد، والتقليل من حجم ما يمارسه من نهب، اللهم إلا إذا تدخل الأقطاب الآخرون (الجيش وفرنسا) من أجل لجم هذا السلوك المنفلت. ويحق للمواطنين التساؤل البسيط والعميق: إذا كانت الحكومة والنظام قد عجزا عن إدارة البلاد والعباد في ظل الوفرة النفطية والمالية، فكيف يستطيعون إدارة الأمور في ظل شح الموارد الشديد؟!
للمزيد: بن بيتور ينتقد فشل النظام الجزائري في إدارة الأزمة الاقتصادية
إقرأ أيضا: جيوب الجزائريين.. الحل الأسهل للتخفيف من الأزمة الاقتصادية
• الحقيقة الأخيرة ربما، هي أن مرجل الشعب يغلي، وجمره المتقد تحت رماد ذكريات العشرية السوداء يستعر، وقدرته على التأقلم مع واقع الفساد، وانعكاسات الأزمة الاقتصادية، والعبث بالنسيج المذهبي والطائفي، وحرب المواقع ومراكز النفوذ استنفذت، وهي كلها من بين أخرى، منشطات لهذا الغليان. ليبقى موعد خروج الأمور عن السيطرة هو مما يختص به الله عز وجل نفسه، دون الركون إلى نظرية أن “بعبع” التسعينيات كفيل بإسكات طموح الجزائريين المشروع في حياة ديمقراطية سليمة، ووضع معيشي كريم، إلى الأبد.
خلاصة القول، أن صراع قطبي السلطة الداخليين، وارتباطاته الخارجية، أو توزيع مراكز القوى وحدود الحركة بينهما هي عملية مستمرة، ولم تنته بعد. وأن توزيع تركة جهاز المخابرات القوي بينهما ما هي إلا فصل من هذا المشهد، ولا يمكن لهذا الفصل بأي حال أن يختزل “المسرحية” برمتها. والأكيد أيضا، أن باقي فصول المسرحية ستتلاحق تباعا وبوتيرة أسرع بعد أن تم إنهاء الفصل الأصعب المتمثل في تنحية “رب الجزائر” دون دماء- حتى الآن على الأقل-. والأكيد أيضا أن الرئيس “الصوري” لن يكمل عهدته، وعلى الأغلب لن يكمل عامه الحالي، إذ لا يزال لدى قطبي السلطة ما يصنعون بتوقيعه ويخرجون باسمه: التعديلات الدستورية. ولو كانت الأمور قد حسمت قبل ذلك لما كان بوتفليقة قد تم ترشيحه أصلا لعهدة رابعة. وستظهر لنا الأحداث بعدها الكفة الراجحة: ترشح السعيد بوتفليقة لوراثة أخيه، أم ترشح الفريق الكهل أحمد قايد صالح؟ وهو الذي إن تم، سيعلن انتصار فريق على آخر وبدء صفحة جديدة في تاريخ النظام الجزائري لا يعرف إلى متى ستستمر، أما إن كان هناك في نهاية الأمر مرشح توافقي، فهو إيذان بتأجيل الحسم إلى مدى زمني أبعد تكون فيه الظروف مختلفة. كل ذلك رهين طبعا ببقاء الجزائريين في بيوتهم يتفرجون على اللعبة الدائرة باسمهم، أما إن قرروا، لأي سبب وفي أية لحظة، مغادرة مقاعد المتفرجين، فيمكن الحديث ساعتها فقط عن جزائر جديدة وليس مجرد نظام جديد؛ جزائر يمكن الرهان أخيرا على أنها تلك التي استشهد لأجلها ملايين الجزائريين، وسالت للحصول عليها أنهار الدم والعرق. جزائر، هي فخر لكل جزائري، وذخر لكل عربي ومسلم.