في ظل نظام مغلق كالنظام الجزائري، يمكن تلمس العذر لمعظم المحللين والمراقبين السياسيين- ناهيك عن المواطنين العاديين- إذا ما لجأوا لاجترار أدبيات التحليل ومفاتيح الفهم التقليدية، علّها تسعفهم في فك طلاسم المشهد الجزائري، رغم أنها تبدو أحيانا أشبه بقراءة الطالع والرجم بالغيب. تخبط بدا واضحا في أعقاب الزلزال الذي تمثل في إقالة “رب الدزاير” الفريق محمد مدين (توفيق)، ولا يزال مستمرا حتى اللحظة، عندما يتعلق الأمر بمحاولة قراءة ما يجري من تغيرات متلاحقة وفهم تداعياتها المحتملة. وهو الامر الذي ينسحب على الاحتجاجات الأخيرة التي شهدتها أربعة مدن جزائرية.
ورغم الصحة الكبيرة لمقولة “فتش عن الجيش” لفهم كل ما يتعلق بالجار الشقيق، إلا أن تعدد مراكز القوى داخل المؤسسة العسكرية، وتبدلها على مر الزمن، ناهيك عن الغموض الذي يلف مهامها ورجالاتها، لا زالت تربك قراءات المحللين وتجعلها “متجاوزة”. فالمؤسسة العسكرية التي اعتادت على كونها “ثنائية القطبية”، مكونة من قطب هيئة الأركان وقطب المخابرات، عاشت معركة نفوذ بدءا من منتصف عام 2013، انتهت صيف 2015 بإقالة توفيق وتفرد هيئة الأركان بالسيطرة. تغيرات تعددت القراءات بشأنها كذلك، وإن كانت الغالبية قد استسهلت تفسيرها المبسط بشكل مخلّ على أنها انتصار لجناح الرئاسة الجزائرية التي يعتبر رئيس الأركان الفريق أحمد قايد صالح أحد رجالاتها، بل و”موظفا” بسيطا عند السعيد بوتفليقة، الحاكم الفعلي باسم أخية العاجز.
مشكلة التحليل السابق، لا تكمن فقط في اعتماده نفس المقاربة التقليدية للمؤسسة العسكرية منذ الاستقلال وحتى الآن، بل في اعتباره أن معسكر الرئاسة الممثل في الرئيس ومحيطه، والذي يعمل في خدمته رئيس هيئة الأركان!، وبعد أن قضى على منافسه المزعوم برأي أصحاب هذا التحليل الفريق توفيق وصفى تركته الممثلة في الجهاز الرهيب “دائرة الاستعلامات والأمن”، يفترض أنه قد أصبح القطب الوحيد في السلطة الجزائرية، مما يؤهل السعيد بوتفليقة لتنصيب نفسه “إمبراطورا” وليس مجرد خليفة لشقيقه. هذا التحليل الذي يكذبه الواقع يوميا، وفي محاولة أصحابه ستر عوراته المتعددة، يلجأون عادة إلى الحديث عن صراع أجنحة داخل معسكر الرئاسة، في سياق ما يعتبرونه معركة خلافة الرئيس بوتفليقة الغائب عن الوعي والسلطة معا، مكتفين بقراءة طالع الأسماء المتداولة إعلاميا داخل هذه الدائرة، من أحمد أويحيى إلى عبد المالك سلال، والحديث عن ارتباطاتهما ومدى قربهما أو بعدهما من الشقيق القوي السعيد بوتفليقة، ونفوذهما وسط رجال الأعمال والإعلام، التي يعلم القاصي والداني أنها صنيعة الرجل القوي “سابقا” الفريق توفيق.
وأمام العورات الواضحة في هذا التحليل، بدأت أصوات خافتة، سرعان ما تعالت واكتسبت قوة وحجية، في الحديث عن نظرية أخرى لفهم ما يجري، معتبرة أن تصفية جهاز المخابرات القوي وإعادة هيكلة مهامه، ما هي إلا محاولة “تطهير” قامت بها قيادة هيئة الأركان، في سعيها لإنهاء ما تسميه “النفوذ الفرنسي في الجزائر” والمستمر منذ “قرنين” من الزمان دون انقطاع!! وهي العملية التي أفضت منطقيا إلى تبلور معسكرين متضادين: قطب الرئاسة، وقطب الجيش، والتي خرج فيها الجيش منتصرا حتى الآن، بوراثته معظم إن لم يكن كل المهام والأدوار الحساسة للقطب المنتهي، قطب المخابرات. ووفق هذا التحليل، فتخلص الجيش من “الهيمنة الفرنسية” التي كانت مكفولة دوما عبر ما يصطلح عليه في الأدبيات السياسية الجزائرية “جنرالات فرنسا”، حصر نفوذ المستعمر السابق في معسكر الرئاسة وارتباطاته.
هذا النظام “ثنائي القطبية”، والذي يمتلك كل واحد من قطبيه أوراق قوة لا يستهان بها، “يتعايشان” حاليا، بعد أن وضح استحالة اتفاقهما، في انتظار الساعة التي يجدها كل طرف مناسبة له لخوض “المعركة الحاسمة” التي يؤمل أن تجلب له انتصارا واضحا. معركة عنوانها، وفق هذا التحليل دائما، هو “إنهاء النفوذ الفرنسي في الجزائر”، أو على العكس، ضمان استدامته لسنوات وعقود كثيرة مقبلة!!. وفي انتظار هذا الحسم، من الطبيعي أن نشهد “معارك جزئية” من قبيل ما عايشناه من تصريحات جريئة، أعقبتها إقالة، لزعيم الأفلان السابق عمار سعداني، وكذا معركة “فرنسة” المناهج التعليمية الجزائرية والتي تحمل لواءها وزيرة التعليم نورية بنغبريط، وغيرها من المعارك الفرعية الدائرة داخل كل من المعسكرين، لتقوية الجبهة الداخلية ورص الصفوف انتظارا لمعركة الحسم، التي يبدو أن الجميع قد توافق على أن “ساعتها الصفر” هو الإعلان الرسمي عن وفاة الرئيس بوتفليقة.
وعلى ضوء ما تقدم، يمكن فهم حدثين بارزين، حظي أحدهما المتمثل في الاحتجاجات الأخيرة بصدارة الاهتمام الشعبي والإعلامي، بينما لم يحظ الآخر بما يستحقه من اهتمام، والمتمثل في منح صفة “الضبطية القضائية” لضباط الإدارة المركزية لأمن الجيش DCSA، التابع لرئاسة الأركان، والذي أصبح رسميا ومنذ صيف 2015، جهاز المخابرات الأقوى في البلاد. صفة ستكمل ما تبقى من أسباب القوة لهذا الجهاز، وتمنح صلاحيات غير مسبوقة للمؤسسة العسكرية ممثلة في هيئة الأركان. بل إن الاستغراق أكثر في هذا التحليل، يمكنها أن يعتبر الحدث الأول، بمثابة رد معسكر الرئاسة، ومن “يقفون وراءه”، على الحدث الثاني الذي خرج به معسكر الجيش منتشيا.
كيف ذلك؟
أمام تهافت النظرية الأولى، والتماسك الظاهري- حتى الآن على الأقل- للنظرية الثانية، يمكن القول أن معركة المعسكرين الحاسمة حول بقاء أو انتهاء النفوذ الفرنسي، قد انتقلت إلى مرحلة الحسم، المتمثلة في محاولة كسب، أو توظيف الشارع الجزائري المتفرج والتائه حتى اللحظة، حيث من شأن كسبه لصالح أحد المعسكرين أن يحسم إلى حد كبير مصير المعركة، دون عظيم خسائر. وهنا، يبدو مفهوما رهان معسكر الرئاسة على تفجير الشارع الجزائري ووضعه في مواجهة صريحة ومباشرة مع الجيش المكلف دستوريا بالحفاظ على الأمن الداخلي والخارجي للبلاد، بينما يبدو الرهان العكسي لمؤسسة الجيش ممثلا في استمرار الهدوء في الشارع، وبالتالي كفايته مؤونة التدخل، والتفرغ لحسم معركته مع معسكر الرئاسة عندما تحل ساعة الصفر التي تحدثنا عنها آنفا، في ظل خلل واضح في موازين القوى لصالحه.
محاولات توتير الشارع والتي بدأت أولى “بروفاتها” في غرداية، دون أن يكتب لها النجاح بعد التدخل المحدود والحاسم للجيش في وأدها، انتقلت الآن إلى مستوى أعلى، تمثل في دعوة للإضراب تحت يافطة جذابة هي “الاحتجاج على الارتفاع المهول للأسعار”، والتي تطورت إلى بعض أعمال الشغب المحدودة في بعض مدن محافظات تيزي وزو وبجاية والبويرة وغرداية ذات الأغلبية القبايلية تحديدا، دون باقي ولايات الوطن. وهنا يطرح أصحاب النظرية الثانية تساؤلا مشروعا: هل هي مجرد مصادفة، أن تكون الولايات الأكثر حظا هي التي احتجت على غلاء الأسعار التي تكتوي بها غالبية مواطني باقي ولايات الجزائر “غير المحظوظة”؟؟!!
الآن، وبعد أن تجنب الجيش التدخل لمعالجة هذه الاختلالات الأمنية المحدودة، ومع التفعيل المرتقب لصلاحياته غير المحدودة في معالجة أي خلل أمني بعد امتلاكه “لسلاح” الضبطية القضائية، والتي ستمكنه من متابعة “الجميع”، من أكبر مسؤول حتى أصغر مواطن، هل يمكن التسليم سلفا بانتصاره؟ من المبكر الجزم بذلك، حيث لا زال لدى معسكر الرئاسة وامتداداته داخل قطاع الإعلام ورجال الأعمال المزيد من أوراق القوة، مع التأكيد على أن الأمر مرهون كذلك بعدم تكرار الاحتجاجات الأخيرة على مستوى أوسع، والأهم، أن لا تتحول إلى مواجهات “طائفية” بين مكوني الشعب الجزائري، بسبب الشحن الإعلامي والتدخلات “الخفية”، بدعم ومساندة من الحركات الانفصالية كتنظيم “الماك” وغيرها من العوامل المتداخلة. كل ذلك، على أمل أن لا تتاخر كثيرا ساعة الإعلان عن الشغور الرسمي لمنصب الرئاسة.
أيا كان المآل، فدعاؤنا دوما هو أن يحفظ الله الجزائر وشعبها من كل خطر داخلي أو خارجي يتهددها، وأن تستقر الأوضاع بها لينعم المواطن فيها، أخيرا، من ثرواته التي تتسرب إلى الحسابات الخارجية، أو تهدر في معارك داخلية “وإقليمية” عقيمة وعبثية.