ربما هي ساعات، ويعرف الرأي العام مصير تشكيل حكومتهم المقبلة، والمعلق منذ قرابة الثلاثة أشهر. ساعات، ويستطيع الرأي العام معرفة حصيلة الرهانات التي شهدتها الأسابيع الماضية، ومصير “الفيتوات” التي وضعتها الأطراف السياسية مقابل بعضها البعض، والخطوط الحمر التي وضعها كل منها كشرط للمشاركة في الحكومة المقبلة، وما إذا كانت “الواقعية السياسية” و “المصلحة الوطنية” قد نجحت في تحويل بعض هذه الخطوط للأصفر أو الأخضر، بما يتيح لهذه الحكومة رؤية النور خلال الأيام أو الساعات المقبلة.
الخطوط الحمر التي وضعها أبرز الفرقاء السياسيين، هي بالمناسبة ممارسة ديمقراطية عادية، في إطار رهان صراع القوى المعتاد بين القوى السياسية الفاعلة في أي بلد ديمقراطي متقدم، وشهدنا مثيلها مؤخرا، وبشكل أكثر حدة وشراسة، في كل من إسبانيا واليونان وإيطاليا، وقبلها تركيا، واتخذت مآلات مختلفة، حيث احتاجت إسبانيا واليونان وتركيا، نتيجة عدم توافق الأحزاب الرئيسية، إلى إعادة الانتخابات أملا في الخروج من حالة “البلوكاج” السياسي عندها، وهو ما أتاح لتركيا مثلا تعاظم كتلة الحزب الرئيسي العدالة والتنمية، وبالتالي القدرة على تشكيل حكومته بأريحية، بينما لم تتغير الخريطة في إسبانيا، واضطر الحزب الشعبي لتشكيل حكومة أقلية، بمباركة غريمه الإشتراكي دون الدخول فيها.
وفي المغرب، وما أن بدا أن الطريق ممهدة أمام رئيس الحكومة المكلف عبد الإله بنكيران لتشكيل الحكومة، بالانضمام المبكر لكل من حزبي الاستقلال والتقدم والاشتراكية، حتى أصبحت عقبة المقاعد الخمسة عشر المتبقية اللازمة للحصول على الأغلبية العددية معضلة لا تزال بدون حل حتى الآن، أمام الاشتراطات التي وضعتها الأحزاب الصغيرة والمتوسطة المتبقية. فكان الرفض الذي أبداه حزب الحركة الشعبية للدخول بدون التجمع الوطني للأحرار أول المفاجآت، بينما آثر حزب الاتحاد الدستوري التفاوض مباشرة وعقد الاتفاقات مع حليفه الأحرار، معلنا تشكيل كتلة برلمانية واحدة، وربط مصيره بمصير حليفه. أما حزب الاتحاد الاشتراكي، وبعد أسابيع من الإثارة والمراوحة بين الترحيب بالمشاركة والتلويح بالمقاطعة، فقد اختار بدوره الاصطفاف إلى جانب “القطب الجديد” الذي يرأسه وزير الفلاحة، الزعيم الجديد للتجمع الوطني للأحرار، عزيز أخنوش، معلنا ما كان معروفا منذ زمن بعيد: وفاة الكتلة الديمقراطية رسميا.
وأمام هذا المشهد، بدأت مرحلة شد الحبل مقتصرة على أخنوش المؤزر بدعم ثلاثة أحزاب تجعله يفاوض بنكيران من موقف الند، بتحكمه في أصوات 103 نائبا برلمانيا، مقابل هذا الأخير المتمتع بدعم 183 نائبا. مشهد تعقد عندما أعلن بنكيران أنه لن يشكل حكومة تخلو من حليفيه، مع إعلان مضاد من قبل أخنوش أنه لن يدخل حكومة يشاركه فيها الاستقلال، وهي الصورة التي لم تتغير، علنيا على الأقل، منذ أزيد من شهرين.
حجة العدالة والتنمية، المعلنة على الأقل، أنه يجب احترام إرادة الناخبين الذين أعطوا للاستقلال مقاعد أكثر من الأحرار، ومن جهة أخرى، لا يمكن له القبول بالتضحية بحليف وافق دون تحفظ على دخول الحكومة دون شروط، منذ لحظة إعلان النتائج. أما ما لم يقله صراحة، فهو أنه لا يقبل بأن يصبح أخنوش، هو من يتفاوض مع الأحزاب الأخرى لدخول الحكومة، بدلا من الرئيس المكلف دستوريا، وأن يضع “الفيتوات” على من يدخلها أو يمنع عليه دخولها، وبالتالي يسمح له بالدخول ككتلة، تضم إلى جانبه حزبي الأتحاد الدستوري والحركة الشعبية، على الأقل، من أجل إكمال نصاب أغلبيتها المطلوبة لتعويض مقاعد حزب الاستقلال.
أما حجة التجمع الوطني للأحرار، أيضا المعلنة على الأقل، فهي تجنيب الحكومة المقبلة تبعات التنافر بل والحرب بين مكوناتها، والتضحية بانسجامها، أما ما لم يقله صراحة، فهو أنه لن يقبل الجلوس منفردا بمقاعده السبعة والثلاثين في مواجهة بنكيران وحلفائه المتمتعين بدعم 183 نائبا، بما يمنعه عمليا من أي دور مؤثر، اللهم باستثناء ما سيعطى لممثليه من حقائب وزارية.
الآن، وبعد الزوبعة التي أثارتها تصريحات زعيم الاستقلاليين حميد شباط بخصوص الجارة موريتانيا، وما أن بدا أن الاستقلال في سبيله للخروج من الحكومة المقبلة، وبالتالي تمهيد الطريق لتشكيلها بدونه وفق صيغة أخنوش، جاء تنحي شباط عن الاستوزار وعن إدارة المشاورات مع بنكيران حول دخول حزبه للحكومة، ليعيد المشاورات إلى المربع الأول، ويطرح سيناريوهات التشكيل المقبل للحكومة مرة أخرى، ولتنطلق معها وتتسع دائرة التكهنات حول المسار الذي ستتخذه. وهكذا، وجدنا أنفسنا أمام سيناريوهين لتشكيلها إذا أريد للمغاربة أن لا يذهبوا مرة أخرى إلى صناديق الاقتراع، وهو الأمر الذي لا يملك أي طرف اليقين بخصوص نتائجه المحتملة، وما إذا كانت ستغير الخريطة السياسية الحالية أم لا:
- السيناريو الأول: أن يقتنع بنكيران ومن ورائه حزبه، بأن وجود حزب الاستقلال برئاسة شباط، حتى ولو لم يمارس هذا الأخير ما يمكنه تعكير صفوها، من شأنه تعريض العمل الحكومي لمطبات كثيرة هو في غنى عنها، ويتنازل عنه انسجاما مع متطلبات “المصلحة الوطنية”، ويقبل بتشكيل حكومة بقطبين: هو وحليفه التقدم والاشتراكية، مقابل الأحرار وحليفيه الدستوري والحركة الشعبية.
- السيناريو الثاني: قبول أخنوش ومن ورائه حزبه، باعتبار ما جرى من تنحي لغريمه اللدود شباط، كافيا لقبوله الجلوس مع العناصر “المعتدلة” من الاستقلال داخل حكومة، يرافقه فيها أحد حليفيه الدستوري والحركة الشعبية أو كليهما، وذلك انسجاما مع “الواقعية السياسية”.
مشكلة كلا السيناريوهين أنهما، وأمام عادة الناس في الحكم على النتيجة النهائية، ستجعل المراقبين ينظرون إلى نتيجة شد الحبل بين بنكيران وأخنوش على أنها تمخضت عن انتصار شخصي لأحدهما، وبالتالي فقبول بنكيران بإخراج الاستقلال يعني انتصارا لأخنوش، وقبول أخنوش بالجلوس في الحكومة مع الاستقلال يعني انتصارا لبنكيران. ولا يفيد هنا كثيرا ما قدمناه ويعلمه جل المراقبين والمحللين السياسيين، بأن السياسة هي “فن الممكن”، وأن النضج السياسي للأحزاب يقاس بقدرتها على اجتراح حلول من طينة “رابح- رابح”، وأن وظيفتها الأساسية هي مراعاة المصالح العليا للبلاد والعباد على حد سواء، وليس تسجيل النقاط هنا وهناك، في معارك سياسية جزئية، لا بد وأن أثرها سيظهر بعد خمس سنوات من الآن، إذا لم تحدث المفاجأة ويدعى المواطنون قريبا لإعطاء رأيهم فيما عايشوه من أداء سياسي متباين للأحزاب التي أعطوها أصواتهم.
أيا كان الأمر، فالساعات المقبلة كفيلة بإجابة السؤال: هل يجلس بنكيران مع أخنوش وحلفائه، أم أن العكس سيحدث ويقبل أخنوش بالجلوس مع بنكيران وحلفائه، أم أن الطرفين سيستطيعان إيجاد صيغة “رابح- رابح”، بتشكيل حكومة موسعة، تدخلها الأطراف الخمسة أو الستة، مع السلبيات المعروفة لهذا الخيار، على اعتبار أنه أقل الخيارات كلفة من الناحية السياسية، وتوفر لهما الاشتغال سويا بارتياح!!