يواجه المغرب الْيَوْم تحديات كثيرة يتداخل فيها الاقتصادي مع الاجتماعي والسياسي كما يتداخل الخارجي مع الداخلي بشكل غير قابل للإنكار.
إن وضوح الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية في مختلف مؤشرات التنمية والتعبير عنها بواسطة بعض الاحتجاجات هنا أو هناك، ليس يعني قدرته على حجب الأبعاد السياسية وإن تجلت في مظاهر غير مباشرة عديدة، تتراوح بين تبخيس العمل السياسي المنظم، على مستوى الأحزاب كما على مستوى المؤسسات المنتخبة، محليا وجهويا ووطنيا، وبين تصاعد مسلكيات عنوانها اللامبالاة بما يجري على الساحة، وفِي تفاعلها مع قضايا الوطن الكبرى، غير أنها تكشف الغطاء عن غياب الوعي السياسي الحقيقي تحت طبقات من اليأس والقنوط الفكري السياسي الذي هو نقيض الوعي تماما.
ولعل تنامي الميل لدى فئات واسعة من المواطنين إلى تصديق كل ما ينشر أو يقال، في مختلف وسائط التواصل، دون إعمال للنقد للتمييز بين الحقيقي والزائف، هو العنصر الجديد الذي يسمح بالقول إن المجتمع برمته إما متحد من العيار الثقيل من شأن عدم أخذه بعين الاعتبار تقليص دوائر الإعلام الحقيقي وتوسيع دوائر المزيف. ذلك أن الغلبة قد أصبحت لما يمكن اعتباره بروباغاندا سوداء مقابل الانحسار التدريجي للإعلام التنويري.
لا يتعلق الأمر هنا بفعل أفراد معزولين تحركهم نزوات فردية، والرغبة في تحقيق رغبات أو مصالح ذاتية آنية فحسب، وإنما بجماعات ومنظمات ذات توجهات سياسية استراتيجية تعمل وفق خطط مدروسة، تزاوج بين الاستفادة من نتائج دراسات علمية حول اتجاهات الرأي وبين العمل على تنمية تأثير الأهواء والعواطف في بلورة مواقف الأفراد والجماعات والخطط التي تمت بلورتها في ضوء تلك النتائج، لتكييف الرأي العام وجعله يتقبل مفردات البروباغاندا أكثر مما يعطي الأهمية الضرورية للمعلومات غير القابلة للدحض على مختلف المستويات. وذلك لسبب بسيط هو أن المعلومات الحقيقية تحارب، من حيث هي كذلك، البروباغاندا القائمة على الإشاعات. وليس ممكنا لمن يبني كل أو جل دعاياته على هذه الأخيرة أن يدفع إلى الاهتمام بالأولى لكونها نقيضها الفعلي. ومصلحة من وراء البروباغاندا تكمن في حجب المعلومة الحقيقية وإحداث فراغ تملأه الإشاعات والأخبار المزيفة.
ولعل الأدوار التي تلعبها وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة، في هذا المجال، كافية لوحدها للبرهنة على أن همّ تلك المنظمات ينحصر عمليا في كيفية صنع رأي عام لا رابط يربط بينه وبين الواقع الفعلي، وبذلك يكون لقمة سائغة بالنسبة للبروباغاندا السوداء، التي لا تعير ولو أدنى اهتمام لقيم النزاهة والموضوعية والموقف السياسي الصريح، لأن كل ذلك يحكم على بضاعتها بالكساد شبه المطلق.
يمكن هنا الإشارة الى ملاحظتين أساسيتين:
أولا، نلاحظ هذا الواقع على مستوى ما تروجه دعايات خصوم المغرب السياسيين أو الاستراتيجيين من أخبار مفبركة، حول واقع قضايانا الوطنية الكبرى، وفِي مقدمتها قضية أقاليمنا الجنوبية حيث يتم تجنيد كل شيء لحجب الحقائق عن الجهود التنموية المبذولة لجعل تلك الأقاليم نموذجا يحتذى بعد أن ظلت مهمشة خلال عقود طويلة من الاستعمار الإسباني. وهذا رغم كل العراقيل التي اعترضت المغرب في هذه السبيل، جراء افتعال نزاع إقليمي حول قضية من صميم حق الشعب المغربي في تقرير مصير هو تحرير أراضيه المستعمرة. وما كل محاولات تصوير واقع الصحراء المغربية بشكل سلبي في مختلف المجالات، من قبل دعاية القيادة الجزائرية وأتباعها الانفصاليين أو المتعاطفين معهم لهذه الغاية، غير النبيلة أو تلك، إلا الدليل القاطع على أن على المغرب متابعة هذه الأساليب والتحري بصددها لدحض افتراءات الخصوم وتعميق الجوانب الإيجابية من التعاطي مع هذه الأقاليم، باعتبار ذلك الضمانة الحقيقية لمواجهة ميدانية وسياسية فعالة للبروباغاندا المعتمدة وإفشالها.
ثانيا، كما نلاحظ، على مستوى البناء الديمقراطي العام، حيث يتم تضخيم بعض الوقائع السلبية في الممارسة اليومية لهذه الجهة أو تلك، من السلطات المحلية أو الجهوية، والعمل على جعلها تغطي على مجمل الممارسة السياسية في البلاد، دون الإشارة حتى إلى السلطات المركزية غالبا ما تدخلت لإعادة الأمور إلى نصابها، عبر إنصاف من هو بحاجة إلى إنصاف وإنزال العقوبات الجزائية على مخالفي أحكام القانون أو التعدي على حريات هنا أو حقوق هناك.
ولا حاجة إلى التأكيد أن هذا الأسلوب في التعاطي مع قضايا الحريات والحقوق ليست وليدة سلوك عفوي، وإنما هي تنم عن استراتيجية غايتها تشويه سمعة البلاد تمهيدا لتبرير كل المواقف والقرارات أو التوصيات التي تستهدفها، من قبل هذه الجهة الإقليمية أو الدولية، وجعلها تحتل مراتب دنيا في قوائم بعض المؤسسات في مجال تقويم واقع الدول على هذا المستوى، وإن كان التفكير في طبيعة تلك القوائم بشكل جدي يدفع إلى السخرية منها أكثر مما يمكن النظر إليها من موقع آخر، كأن يصنف المغرب، في هذا المجال أو ذاك، في ترتيب أدنى من ليبيا أو سوريا على سبيل المثال لا الحصر.
خلاصة القول إن تحدي مواجهة البروباغاندا السوداء، التي تستهدف المغرب وقضاياه الوطنية والسياسية يفرض نفسه على الجميع مؤسسات حزبية ومنتخبة وافرادا، ليسب هدف الوقوع في منزلقات البروباغادا المضادة، التي تصور الواقع كما لو كان على مستوى الطموح، لأن هذا لا يمكن أن يساهم في دحض بروباغندا الخصوم المدعومة بإمكانيات مادية ولوجستية لا قبل للمغرب بها، وبالتالي، فقد يساهم في تكريس ادعاءاتهم المغرضة في حق الوطن، وإنما عبر الانكباب على معالجة مختلف معطيات الواقع بما يتطلبه ذلك من الحزم في التعامل مع السلبيات، ومضاعفة الجهود لتعميق ايجابيات الممارسة. ذلك أن هذا هو الأسلوب الوحيد الذي يجعل كل بروباغاندا سوداء عديمة التأثير على مجريات حياتنا السياسية الوطنية.