عادة ما يتم اتهام النموذج التنموي المعتمد في بلادنا بالمسؤولية عن كل المشاكل والتحديات الاقتصادية والاجتماعية التي تعترضها، إلى درجة توليد انطباع لدى الكثيرين أن نموذجا تنمويا آخر جاهز وموجود في مكان ما، لو تم اعتماده لتخلصت البلاد من مشكلاتها ولربحت كل الرهانات وتغلبت على كل التحديات. والحال أن هذا انطباع ليس لديه أقوى الروابط الفعلية مع الواقع الذي ليس ممكنا اختزاله في مجرد نماذج جاهزة ووصفات سحرية يكفي الدولة اختيارها ونبذ ما عداها لتلافي كل المعضلات المرتبطة بالتقلبات المختلفة التي يشهدها عالم الاقتصاد والتنمية بمختلف اشكالها، في ظل نظام معولم لا يترك هوامش كثيرة امام سياسات العزلة والانعزال تحت أي مسميات كانت. وهكذا تسقط فرضية النموذج المثال والمراهنة على إرادة الاختيار المتحرر من كل اكراهات الواقع في آن واحد.
ورغم عدم تبني موقف ينطلق من تماهي كل النماذج في مجال التنمية أو إنكار دور ووزن الإرادة التي تؤطر هذا الاختيار أو ذاك، فإنه من الضروري التمييز، منذ الانطلاق في موضوع النموذج التنموي، بين الأبعاد ذات الطابع الايديولوجي وبين البرامج ذات الطابع العملي، ولو تم الاعتراف ان لديها هي أيضا خلفية ايديولوجية أو تصوراتها الخاصة بها.
فإذا كانت الأبعاد الأيديولوجية لا تخرج في الغالب عن تصورات عامة حول ما ينبغي أن يكون عليه النموذج التنموي المنشود انطلاقا من تقويم اجمالي لنماذج اخرى تعتبر ناجحة او فاشلة، بهذا القدر أو ذاك، وهي، في هذه الحالة، قابلة للنقاش ولإعادة التقويم انطلاقا مِن زوايا نظر متعددة تحددها الأولويات التي توضع على رأس قائمة الاهتمامات، فإن بعضا منها يصدر عن محاولة تخيل نموذج مثالي انطلاقا من مسلمات يتم التعامل معها كما لو كانت معطيات موضوعية، وهي غير كذلك بالتأكيد، الأمر الذي ينتهي إلى حصر ابداع الفاعل الاقتصادي وصانع القرار السياسي ضمن دائرة مغلقة من الأفكار والفرضيات التي لا تقوم على أي أساس في الواقع، ويكفي بالتالي، نقض ما اعتبر مسلمات الانطلاق لينهار كل البناء المتخيل نموذجا تنمويا لا تعتوره نواقص على المستوى الذهني والصوري المحض.
صحيح ان هناك نماذج اختبارية، ان صح التعبير، وهي ككل ما يندرج ضمن صنفها محصلة تجارب ملموسة للدول والشعوب في ضوء عدد كبير من العوامل التاريخية والسياسية والاستراتيجية التي تتحكم في اختياراتها النهائية، غير أن هذا الواقع، بالذات، هو الذي يدفع إلى الحرص على عدم استنساخ تجربة بعينها، وان كان ضروريا أخذها بعين الاعتبار عند بلورة النموذج التجريبي، على اعتبار ان معطيات البيئة الاقتصادية والاجتماعية والتاريخية في مستوى من مستوياتها هي العامل الجوهري المحدد للاختيار.
وبطبيعة الحال، فإن الاختيارات على هذا المستوى ليست نهائية وغير قابلة للتعديل او التغيير وإنما هي اختيارات تغطي مرحلة او حقبة تطول او تقصر بحسب نتائج الممارسة في ضوء النموذج التجريبي المعتمد ومدى تأثير مختلف التحولات التي تعرفها مرحلة الانجاز داخليا وخارجيا وطبيعة تفاعل صانع القرار السياسي الاستراتيجي معها ايجابا او سلبا.
وبهذا المعنى فإن تحرير النموذج التنموي من الأيديولوجية ذات البعد القيمي لفائدة مفردات مرتبطة بالتنمية الفعلية ومفهوم التطور على مختلف المستويات ضرورة منهجية للنأي بالنموذج عن متاهات المواقف المسبقة، تنديدا أو تبجيلا؟ لأن الأصل هو محاكمة مختلف النماذج على قاعدة مردوديتها للمجتمع المعني وقدرتها على التكيف مع مستجدات الواقع المتغير باستمرار عن طريق استيعابها وليس أن تقذف بها رياح المستجدات في كل اتجاه ودون أي اتجاه يمكن التحكم في مساراته.
أي بكلمة على صانع القرار الاستراتيجي في مجال التنمية على تعدد مستوياتها اعتبار النموذج المعتمد نموذجا مرنا ومنفتحا على الواقع ومستجداته لتجنب خطر الجمود والانغلاق المسؤول عن كثير من أشكال الاحتقان من جهة، دون الوقوع من جهة أخرى، في مخاطر التجريبية المحضة المسؤولة عن استعصاء قراءة الواقع الاقتصادي والاجتماعي والسياسي قراءة دينامكية مستشرفة ومبدعة تقطع مع كل أشكال الارتجال.