هل يمكن الحديث، في الزمن المنظور، عن فترة استقرار طويلة الأمد واحترام سيادة الدول والشعوب، على قاعدة شرعة الأمم المتحدة وثوابت العلاقات الدولية المرتبطة بضرورة الحفاظ على الأمن والاستقرار الدوليين؟ وهل يمكن احترام مبدأ تقرير مصير الشعوب ووحدتها الوطنية والترابية وعدم الزج بها في صراعات ذات طابع قومي ومذهبي وطائفي لتبرير تمزيقها وتفكيكها تحت مسميات الحق في تقرير المصير الذي تحول من أداة نبيلة لتحرير الشعوب من ربقة الاستعمار والاضطهاد إلى أداة بيد قوى التفتيت والاستعمار الجديد لخدمة أجندات مناقضة تماما لما يتم الإعلان عنه من أهداف؟
يستمد هذان السؤالان شرعيتهما من معاينة مختلف النزاعات المحلية والإقليمية ذات الأبعاد الدولية، الضمنية أو الصريحة، التي لم تتوقف يوما عن البروز هنا، والاستفحال هناك، والافتعال تارات عديدة، دون ان تجد طريقها الى الحل. ولا فرق هنا بين النزاعات التي صدرت حولها قرارات مجلس الأمن الدولي وبين التي لم يتم تدويلها بشكل صريح غير ان استمرارها دون حل يعني تدويلها حتما في نهاية المطاف.
إن المفارقة التي يضعنا هذا الوضع أمامها تشير إلى خطورة اللعب بالمباديء التي تم سنها على المستوى الاممي لخدمة شعوب العالم قاطبة لاختزالها في مجرد أدوات تنحصر في أداء وظائف الاستعمار الجديد وقوى الهيمنة التي تجدد أساليبها وتحاول التلويح بيافطات الحقوق لقضمها ودوسها ولو أدى ذلك إلى استخدام قوة السلاح في خرق صريح وواضح للقانون الدولي ولشرعة الأمم المتحدة.
ولن يعدم المتابع للوضع وتحليل الأزمات والنزاعات المحلية والإقليمية ذات البعد الدولي القرائن بل والحجج الدامغة على أن عددا من الدول الاقليمية والقوى الدولية المؤثرة لا تتردد في اختلاق أزمات ونزاعات تارة أو استغلالها لخدمة أجنداتها الخاصة تارة أخرى، عبر اللجوء إلى تأويل هذا المبدأ أو ذاك من مباديء القانون الدولي بحيث يتم تكييفه مع تلك الأهداف حتى في الحالات التي يتناقض فيها معها على طول الخط.
ولعل قضية الصحراء المغربية وافتعال نزاع إقليمي حولها، دون وجه حق، من الأمثلة الدالة على هذا الواقع، حيث تم استغلال مزاعم وجود شعب صحراوي مستقل عن الشعب المغربي لتبني أطروحة الاستعمار الإسباني الذي حاول إنشاء دولة قزمية على الأقاليم الجنوبية المغربية، وهي الأطروحة إياها التي دافعت عنها القيادة الجزائرية واستخدمتها للنيل من مساعي المغرب لاستكمال وحدته الترابية، ولم تتخل عن هذه الأطروحة إلى حد الآن، لأنها تحولت بالنسبة إليها إلى قاعدة أساسية لتبرير مناصبتها العداء للشعب المغربي في مختلف المحافل الإقليمية والدولية. ولا يبدو في الأفق أن النظام الجزائري قد يغير من هذه الاستراتيجية المعادية، بل إنه لن يدخر وسعا في افتعال كل المشاكل الممكنة لمنع منطقة المغرب الكبير من الاستقرار، لإدراكه أن هذا الاستقرار سيكشف لا محالة سلوكه السياسي والدبلوماسي المناهض لكل تقارب بين دول المنطقة، فأحرى أن يساهم في بناء مشروع الاتحاد المغاربي الذي أصبح رهينة هذا النظام بالذات.
ولقد تم، على مستوى آخر، إخراج مبدأ تقرير المصير من الأدراج بهدفه الانفصالي، لتهديد وحدة العراق، في خرق صريح لدستور البلاد الذي يحدد العلاقة بين إقليم كردستان والسلطة المركزية ببغداد وقرارات الشرعية الدولية بدعوى أن الأكراد قومية متميزة. وهذا من باب قول الحق الذي يراد به باطل، لأن طبيعة الكيانات والدول في المنطقة متعددة القوميات أصلا، وإذا فتح هذا الباب باسم تقرير المصير ببعده الانفصالي التام، مع أن ظروفه غير متوفرة وفِي مقدمتها الاستعمار، فإن هذا يعني الدخول في حروب أهلية لا تنتهي في العراق وسورية وإيران وتركيا وغيرها من البلدان. ولعل انفراد اسرائيل وبرنار ليفي بدعم انفصال أكراد العراق، كاف لكشف طبيعة هذا التحرك المشبوه في هذا الظرف بالذات حيث بدأ نجم تنظيم داعش في الأفول في المنطقة. كما لو أن من وراء هذا التحرك حريص على أن تظل المنطقة بؤرة توتر مستمر، بما يعني محاولة خلق بديل عن القاعدة وداعش والنصرة للإمعان في تدمير المنطقة.
هذا لا يعني أن هذه التوجهات الانفصالية حكر على منطقة الشرق الأوسط، حيث تلعب أيادي أجنبية أدوارا ملموسة في دعم تلك الحركات، بل إن هذه الآفة تفعل فعلها في قلب أوروبا ذاتها. وما حالة كاتالونيا الإسبانية إلا مثال على هذه الاتجاهات الخطيرة، ليس فقط على بلدانها وإنما، أيضا، على الاتحادات والتكتلات الدولية التي تنتمي إليها. وهذا ما يفسر موقف مدريد الصارم من استفتاء انفصال كاتلونيا ورفض الاتحاد الأروبي تزكية هذا المسعى وممارسة كل الضغوط السياسية والمعنوية الممكنة لثني كاتالونيا عن إعلان الانفصال، لأنها في هذه الحالة ستجد نفسها خارج الاتحاد الأروبي، وعليها، بالتالي، أن تمر بكل المراحل الضرورية من المفاوضات إذا أرادت الالتحاق بالاتحاد. هذا إذا كان هناك إجماع حول مبدإ الانضمام اليه، وهذا مستحيل لأن إسبانيا لن تقبل بهذا الأمر تحت أي ظرف من الظروف.
إن التأمل في هذه الحالات يوضح أن مواقف سياسية واستراتيجية مسبقة هي التي وراء إثارة كل تلك النزاعات وأن مصالح الشعوب لم تكن قط في صلب تلك الاستراتيجيات. وإن مبدأ تقرير المصير الذي جاء خدمة للشعوب في مواجهة الاستعمار قد تحول إلى أداة في يد هذا الأخير لتدمير الأوطان. وعليه فإن على كل محبي التعايش والسلام والاستقرار الجهر بقول: كفى من هذا الاستغلال.