تم إعطاء إشارة انطلاق أشغال إنجاز طريق دولي يربط بين مدينتي تيندوف في الجزائر والزويرات الموريتانية من قبل السلطات المختصة في البلدين يوم الأربعاء الماضي. ورغم أن إنجاز مثل هذا المشروع في الوقت الحالي، يندرج ضمن تعزيز العلاقات بين الجزائر وموريتانيا وتمكين الجزائر من معبر إضافي نحو إفريقيا، إضافة إلى ذلك تلك التي بينها وبين مالي والنيجر، كما تقول الأوساط الرسمية الجزائرية، فإن عددا من المحللين السياسيين يَرَوْن أن هذه الخطوة ليست بالبراءة التي تبدو عليها، وإنما جاءت لتكريس محاولات جزائرية حثيثة لعزل المغرب عن إفريقيا. ويمكن اعتبارها تفسيرا ممكنا لتحركات البوليساريو بإيعاز من الدولة الجزائرية لقطع طريق الكركرات في وجه المغرب، باعتبارها منفذا بريا هاما نحو موريتانيا وإفريقيا. وهي الخطوة التي أحبطها المغرب، في حينه واستدعت تدخل الأمين العام للأمم المتحدة شخصيا لتفادي مجابهة مباشرة بين الجيش المغربي وميلشيات البوليساريو التي أوعزت لها القيادة الجزائرية بتصعيد الموقف، لتحقيق هدفين اثنين في آن واحد:
أولا، محاولة الإيحاء بأن تلك المنطقة من مشمولات مزاعم البوليساريو بأنها أرض محررة، وبالتالي، محاولة تحويلها إلى منطقة حدودية بين موريتانيا والجمهورية الصحراوية المزعومة، ما يعني إغلاقها في وجه المغرب، في حين أنها منطقة عازلة وضعها المغرب تحت تصرف الامم المتحدة إمعانا منه في الحرص على توفير الشروط الضرورية، لوقف فعلي لإطلاق النار. ولأنها منطقة مغربية ولا علاقة لها بما يدعى الجمهورية التي أقامتها الجزائر على الأراضي الخاضعة لإدارتها في تيندوف، فقد جاء تحرك المغرب السياسي الدبلوماسي والعسكري لتأكيد هذا الانتماء وإحباط المناورة الجزائرية في هذا المجال.
ثانيا، محاولة إثارة موضوع إمكانية العودة إلى ما قبل اتفاقية وقف إطلاق النار عام 1991 لخلط الأوراق من جديد من جهة، والتغطية على الانتكاسة التي منيت بها الاستراتيجية الجزائرية، بعد فشلها في عرقلة استعادة المغرب لمقعده داخل المؤسسة الإفريقية القارية، والعمل على اختبار موقف الاتحاد الإفريقي من الأزمة التي افتعلتها البوليساريو في منطقة الكركرات في آن واحد. وهو اختبار أريد منه إحراج الاتحاد والدفع به إلى اتخاذ موقف مناوئ للمغرب، كما لو أن هذا الأخير ليس عضوا في الاتحاد، وإنما هو خصم له كما حاولت الدعاية الجزائرية تحويل هذا الزعم إلى حقيقة عندما كان المغرب يتحرك خارج مؤسسات الاتحاد، وبالتالي، كان من السهل على القيادة الجزائرية تمرير مثل هذا الموقف، على عدد من الدول الإفريقية التي كانت تعتقد خطأ، أن وجود المغرب خارج مؤسسات الاتحاد ينطوي على موقف سلبي من الرباط تجاه إفريقيا برمتها.
وقد حرص المغرب عند افتعال أزمة الكركرات على عدم المساس بتوجهه الودي والإيجابي القائم على حسن الجوار مع موريتانيا،رغم ما كان يشاع أو ما قد يكون قائما بخصوص برود في العلاقات بين نواكشوط والرباط، أو فتور أو حتى أزمة، وذلك بهدف تفويت الفرصة على القيادة الجزائرية التي تحاول تضخيم الاختلافات وتباين تقديرات البلدين حول عدد من القضايا، بما في ذلك الموقف من جبهة البوليساريو الانفصالية، إضافة إلى طبيعة العلاقات بين العاصمتين الجزائرية والموريتانية. وعلى كل حال، فإن المغرب لم يتخل، في اَي يوم من الأيام، عن هذا السلوك السياسي الدبلوماسي الحضاري مع جيرانه، رغم كل ما يمكن أن يطرأ من توتر أو خلافات في مقاربة قضايا ذات الاهتمام المشترك وبالرغم من تفاوت المصالح الخاصة بكل بلد عن مصالح البلد الآخر، شريطة احترام السيادة الوطنية وعدم التدخل في الشؤون الداخلية تحت أي مبرر كان.
وهذا يعني أن المغرب الذي وقف عند محطات حاولت فيها القيادة الجزائرية الكيد بين موريتانيا وبينه لم يغب عنه قط أن الهدف من دق اسفين الفرقة بين البلدين الشقيقين هو جزء من استراتيجية عامة ترى أنه غير ممكن إقامة علاقات متوازنة من التعاون والتكامل بين دول المغرب الكبير على الرغم من المديح الذي لا يتوقف على لسان المسؤولين الجزائريين حول مغرب الشعوب أو غير ذلك من الشعارات التي لم تكن في الواقع غير محاولات الهروب إلى الأمام لعدم مواجهة مسؤوليات استحقاق بناء دول الاتحاد المغاربي.
وغني عن التذكير، أن توقيع اتفاقية تمديد أنبوب الغاز بين نجيريا والمغرب نحو أوروبا قد شكل نقطة مركزية ضمن استراتيجية المغرب الإفريقية المفتوحة على غير القارة السمراء في آن معا. لكنه كان بالمقابل بمثابة هزة سياسية استراتيجية غير متوقعة بالنسبة للجزائر. لذلك تحركت لعرقلة إنجاز هذا المشروع الاقتصادي الاستراتيجي الضخم الذي عملت أصلا على تعطيله لأكثر من عشر سنوات، إذ سبق لها أن تفاوضت مع نيجريا حول إنجازه وتم الاتفاق حول ذلك، غير أن الجزائر تجاهلته ولَم تعد للحديث عنه الا بعد توقيع الاتفاق بين الملك محمد السادس والرئيس النيجري ليس من أجل تسهيل إنجاز المشروع، هذه المرة، وإنما في سبيل تعطيله اعتمادا على مناورات لجأت إليها لاستمالة موريتانيا إلى جانبها.
ولا يخفى على اَي كان أن هذا المسعى الجزائري لن يتوقف، في اَي يوم من الأيام، غير أن مراهنة المغرب تقوم على أن إدراك الدول الإفريقية المعنية مباشرة بأهمية هذا المشروع اقتصاديا وسياسيا كفيل بتذليل كل الصعوبات التي قد تعترض إنجازه وتجاوز مناورات القيادة الجزائرية، التي تستند إلى تصوراتها الهيمنية الأنانية في مختلف علاقاتها مع دول الجوار الإفريقي القريب والبعيد.
إن سقوط مناورة الكركرات المدوي وفشل القيادة الجزائرية في الدفع بنيجيريا إلى إعادة النظر في اتفاقية الغاز مع المغرب، وكذلك في تأليب غالبية الدول الإفريقية الأخرى لعرقلة هذا المشروع، يعطي الدليل، مرة أخرى، على أن استراتيجية طول النفس التي يتبعها المغرب في مقاربة قضايا العلاقات المغربية الإفريقية وإعطاء الأولوية، لما يعود بالنفع المشترك على مختلف الدول التي يتعامل معها اقتصاديا وسياسيا، قادرة على كشف وإحباط مناورات الخصوم، والمضي قدما نحو بناء مستقبل إفريقيا المشترك على حساب كل سياسات الهيمنة والإقصاء.