يعتبر النقد السياسي أداة هامة من أدوات العمل السياسي، التي لا غنى عنها لتقويمه وتطويره، بالنسبة للمجتمعات والقوى والأنظمة السياسية على حد سواء.
والنقد السياسي يعني إخضاع الواقع بمختلف معطياته للفحص والتحليل، قصد التعرف العميق عليه، وعليها، من جهة، وقصد بلورة مبادئ وأسس تقوم عليها الممارسة المستقبلية من جهة أخرى.
وبطبيعة الحال، فإن النقد السياسي ليس على نمط واحد، كما أن نتائجه ليست متماثلة بالنسبة لمن ينخرطون فيه، وذلك لسبب هام وعميق، ولو انه يبدو على قدر كبير من البساطة، وهو أن تقديرات المحللين لوضع من الأوضاع السياسية تتميز باختلاف تصوراتهم الخاصة التي تتدخل في تلك التقديرات، وحسب الأهداف المتوخاة منها.
وإذا كان ضروريا عدم تجاهل معطيات الواقع المدروس، في تحليل أي وضع من الأوضاع، فإن للتصورات القائدة لفحصها والتفكير فيها أثرها غير القابل للتجاهل أو الدحض. غير أن هذا الأثر لا يستوعب كل المعطيات، ولا يمكن بالتالي، زعم قدرته على إلغائها، لأن ذلك يعني الإخلال بأساسيات أي تحليل أو تقدير للوضع بشكل سليم. ولا ينتظر من التحليل الذي يتسلل إليه هذا الخلل غير مجانبة الصواب. وهو ما يؤدي بخطط العمل المبنية عليه إلى التخبط وغير القابلية لتحقيق النتائج المتوخاة منها، على اعتبار أن الغاية البعيدة وراء كل تحليل سياسي أو محاولة فحص معطيات الواقع هو المساهمة في تغييره بما ينسجم مع مصالح الفاعلين السياسيين المعنيين.
ويتضمن كل تقدير للوضع السياسي عناصر ينظر إليها باعتبارها عوامل إيجابية وأخرى تعتبر سلبية، حيث يركز الفاعل السياسي على تطوير العناصر الأولى بموازاة العمل على تقليص مضاعفات الثانية على مجمل الممارسة السياسية.
غير أن هناك من يحول مسألة فرز ايجابيات الإنجاز السياسي في مرحلة من المراحل، إلى مجرد ذريعة لتبجيلها والثناء على الذات، التي ساهمت في تحقيقها وعدم تجاوز ذلك إلى العمل على تطويرها وتوسيع دائرتها لتشمل ميادين أخرى. الأمر الذي يوحي بأنها أقصى ما يمكن إنجازه راهنا ومستقبلا. وهو موقف يحكم عليها بالجمود والتقهقر في نهاية المطاف، لأن الإنجاز الذي لا يتم تطويره بشكل مستمر يكف عن كونه إنجازا مع مرور الزمن، وبروز مستجدات فكرية وسياسية واجتماعية تفرض على الفاعل السياسي أخذها بعين الاعتبار لتطوير ممارسته وفتح آفاق جديدة أمام تحقيق إنجازات تتلاءم مع مستجدات الوضع. ذلك أن انقطاع حبل التواصل بين إنجازات المراحل والحقب التاريخية التي يمر منها المجتمع يؤدي إلى النكوص والسقوط في تصورات ماضوية تحصر الإبداع في مرحلة بعينها، وتحاول تدجين الواقع ليتلاءم مع معطيات ماض تم تجاوزه حكما وعملا. وهذا هو الأساس المكين لكل التوجهات النكوصية المتطرفة، التي تلغي مجرد فكرة التطور والانفتاح على المستقبل من قاموسها النظري والسياسي والعملي. وهو أمر ينطبق تماما على التصورات الأيديولوجية المختلفة التي تعتبر نفسها ذروة التفكير النظري غير القابلة للتجاوز، بل والتي تعتقد ضمنا أن على الواقع الخضوع لما تعتبره مسلماتها النظرية، مع أن التحليل العلمي السليم يقوم على إخضاع تلك النظريات لمسبار التجارب الملموسة، على قاعدة معطيات الواقع الملموس وليس محاولة ليّ عنق هذه المعطيات لتتلاءم مع نظريات علمية مكتملة ومثالية مزعومة.
صحيح إن النظرية العلمية الحقيقية هي وليدة محصلة التعاطي مع معطيات أكثر من واقع وعلى مدى زمني ما ومن هذه الزاوية فإنها قد توفر إضاءات معينة بالنسبة لمن يقارب واقعا ينتمي إلى دائرة مشمولات تلك النظرية، غير أن فعل الإضاءة شيء والاكتفاء بها كما لو كانت كل الواقع شيء مخالف تماما. ذلك أن الإضاءة تساعد على التعرف على الواقع في حين أن إخضاع الواقع القسري لمقتضيات نظرية من النظريات لا ينتج غير تعميق الجهل بالواقع. وهو النقيض الفعلي لكل ممارسة سوية.
وفِي المقابل، فإن فضيلة الاعتراف بسلبيات الواقع والتوجه المبدئي نحو تجاوزها وتقليص مضاعفاتها، غير المفيدة للممارسة السياسية قد تتحول عند البعض إلى مجرد ذريعة للإعلان عن إفلاس كل ممارسة سياسية تتوخى التقدم ومواكبة تطورات الواقع الذي تتحرك ضمنه مختلف القوى المتنافسة، بغض النظر عن كونها تدفع الممارسة إلى الأمام أو تعمل على انشدادها إلى الماضي.
إن هذا التصور لا ينظر إلى سلبيات الممارسة باعتبارها مكونات طبيعية ضمن أي ممارسة سياسية سوية، بل يتجه إلى اعتبارها الجوهر الذي على أساسه يمكن تقويم الممارسة، كما لو أن المعطى الدائم فيها هو ما هو سلبي، وأن ما هو إيجابي لا يمكن أن يكون إلا عرضا أو عنصرا هامشيا فيها. وهذا هو الذي يميز تيارا واسعا من الذين يبخسون العمل السياسي أَيَا كان مجاله والقوى التي ساهمت في مختلف مراحل انجازه. وهذا الموقف هو أساس كل الممارسات الفوضوية التي تطفو على السطح، هنا وهناك، في مجتمعاتنا، والتي حاولت قوى إقليمية ودولية استغلالها بكل ما أوتيت من دهاء وقوة لتسويغ مختلف أشكال تدخلها في الشؤون الداخلية للمجتمعات والدول التي ترى أن مصالحها السياسية والاستراتيجية تمر عبر مثل هذا التدخل بواسطة قوى داخلية وكيلة تارة، وتارة أخرى من خلال التدخل المباشر، كلما تبين لها عجز تلك القوى عن أداء المهمة الموكولة إليها وبالشكل الذي تراه ملائما لأهدافها المحددة.
انطلاقا من هذا الموقف العام من النقد السياسي، يمكن تسجيل خلاصتين أساسيتين هما:
أولا، أن النقد الذي يعتبر الإيجابي من المعطيات والإنجازات على أرض الواقع نهاية مطاف التحليل والتقدير السياسي، وحالة مثالية من الإنجاز، ليس لها ما بعدها، هو نقد منقوص وغير منتج. ليس لكونه يتجاهل الجوانب السلبية التي تعج بها معطيات الواقع فحسب، إنما لكونه يرفع ما هو منجز إلى حالة من الثبات والجمود بحيث يستعصي على التحول والتغير الذي هو السمة الوحيدة ” الثابتة” في كل واقع وتحليل. وهو يؤدي في الواقع إلى تعطيل العمل السياسي.
ثانيا، إن النقد الذي يغض الطرف، بشكل إرادي أو غير إرادي، عن كل ما هو إيجابي في الواقع، والإنجازات التي حققتها الممارسة السياسية، لمختلف قوى المجتمع، بل ولا يتردد في تبخيسها، بشكل منهجي، تحت دعاوى وذرائع مختلفة، ليس مجانبا للصواب فحسب، بل إنه يتحول مع تعميم رؤيته التبخيسية لتشمل كل محاولات التأثير الإيجابي في الواقع، إلى سد منيع أمام كل مقاربة واقعية وعقلانية ومسخ الممارسة السياسية واختزالها في نوع من الفوضى والعدمية القاتلة للإبداع.